فى أذربيجان، لا صوت يعلو فوق صوت معركة إقليم كاراباخ المحتل، الذى يمثل 20% من مساحة البلاد، استردوا منها جزءاً صغيراً، منذ أبريل الماضى، بينما تنشط كل الفعاليات حول هذه القضية.
الحياة فى «باكو» العاصمة ومدن أذربيجان الأخرى تقترب كثيراً من مثيلتها فى مصر، شعب يمارس العادات والتقاليد الشرقية، وجباته تقترب كثيراً من أى مائدة فى مصر، وتمثل «الخضرة» مكوناً أساسياً، بالإضافة إلى المخللات.. بساطة الأزياء وتحشمها.. الإقبال الكبير على صلاة الجمعة التى أدّيناها فى أحد أكبر المساجد هناك، حيث يشكّل المسلمون 92% من سكان البلاد، ولاحظنا التوافق الكبير بين السنّة والشيعة لدرجة أن أكبر المساجد هناك المسمى باسم الرئيس والزعيم الأسبق حيدر علييف، وهو والد الرئيس الحالى إلهام علييف، تؤدى فيه صلاة الجمعة مرة بإمام شيعى وأخرى بإمام سنى.
زرت أذربيجان لأول مرة لعدة أيام برفقة وفد صحفى يضم الزملاء رئيسى تحرير الأهرام والشروق، ومديرى تحرير الأهرام وأخبار اليوم والوفد، للمشاركة فى مؤتمر التضامن الإسلامى ودور الإعلام فى مواجهة الإرهاب، وزرنا برفقة المستشار الثقافى المصرى بأذربيجان النشيط د. أحمد سامى الذى يتحدث اللغة الأذربيجانية بطلاقة، حيث حصل على الدكتوراه من هناك، جامعة باكو ومنطقة الحدود مع إيران وأرمينيا، كما زرنا المنطقة التى استردوها «جوجوق مرجاتلى»، وشاهدنا كيف تم تعميرها خلال 5 أشهر فقط، بطرقها وإسكانها ومدارسها ومساجدها، وهناك إصرار وحماس لدى الشعب على استعادة بقية الأراضى المحتلة وتعميرها، وتجولنا داخل شوارع أذربيجان، حيث الانضباط والبساطة والجمال أيضاً، فالتنمية هناك سريعة، كما تجوّلنا فى المدينة الأثرية القديمة التى تشبه إلى حد كبير مناطق القاهرة القديمة.
تعتز أذربيجان بعلاقاتها مع مصر، كما قالت لنا سفيرة مصر بأذربيجان سوزان جميل، خلال عشاء معها فى منزلها، ويسعون إلى توطيد هذه العلاقة، كما أن مصر تضامنت معهم فى كافة المحافل الدولية فى معركتهم لتحرير إقليم كاراباخ.. وتعتمد أذربيجان على البترول، ولديها تقدم فى بعض الصناعات، بينما يشيد د. أحمد سامى، المستشار الثقافى، بنجاح أذربيجان فى تجربتها للقضاء على الفساد.
الود والترحاب سمة أساسية عند الحوار مع أى مسئول أذربيجانى، لكن يبدو أنه لم ينعكس عملياً على العلاقات الاقتصادية بين البلدين، أو كما قال لى السفير الأذربيجانى السابق بالقاهرة شاهين عبداللطيف، الذى عمل بها خلال الفترة من 2010 حتى عام 2016، ويتحدث العربية بطلاقة، أن العلاقات بين البلدين يجب أن تكون أقوى من ذلك بكثير، مشيراً إلى أنه تم توجيه الدعوة مرات عديدة لعدد من الوزراء ولم يستجيبوا، وكنت قد التقيت بشاهين قبل سنوات أثناء عمله فى القاهرة، ولاحظت عليه الحماس الشديد لتوطيد العلاقات بين البلدين، وأعتقد أنه من سوء حظ العلاقات بين البلدين أن مصر تمر بفترة انتقالية كان التركيز فيها على الأحداث الداخلية والشأن المحلى فقط لا غير، وسعدنا بالطبع لرؤيته مرة أخرى، حيث يتولى حالياً منصب سفير المهام الخاصة بوزارة الخارجية الأذربيجانية.
المواقف السياسية لأذربيجان تعتمد على الحياد، خاصة أنهم فى إقليم ملتهب ما بين روسيا وإيران وتركيا وأرمينيا، ومع ذلك فهم يحافظون على علاقاتهم بالدول العربية وإسرائيل وأمريكا وفرنسا وألمانيا ودول أوروبا، لكن الحكومة هناك تنتبه جيداً لقضايا التطرف ولعملية تغيير الهوية القائمة على الإسلام الوسطى، لدرجة أنها تراقب العائدين من السعودية أو تركيا أو إيران الذين يحاولون فرض مذهب معين.
خلاصة رحلة أذربيجان أن مصر تحتاج إلى التواصل بشكل أكبر مع الشرق الأوسط الذى يتطور وينمو بسرعة مذهلة ويكنّ التقدير لمصر شعباً وحكومة.
«حسينوف»: منذ عشر سنوات هناك دوائر غربية تثير الفتن والنزاعات فى المنطقة بأكملها.. والحل يكمن فى تضامن العالم الإسلامى.. وعلاقتنا مع إسرائيل وأمريكا وطهران والعرب يسودها الود
خلال الزيارة، تم لقاء على حسينوف، مساعد رئيس الجمهورية الأذربيجانى، أكد «حسينوف» أنه زار مصر مرتين، مطالباً كل مصرى بأن يفخر ببلده ويعتز بحضارتها وآثارها. وبرر «حسينوف» قدرة بلاده على الإفلات من وحش الطائفية والمذهبية الدينية بحالة التسامح والوئام التى تسود فى البلاد، وقال: فعلاً لدينا شيوخ الإسلام يجلسون على السفرة الرمضانية بجانب زعماء الكنائس المختلفة وممثلى الديانة اليهودية، بل إنه وبمبادرة من شيخ الإسلام يتم تقديم دعم مالى للكنائس والمعابد، وكذلك ترميمها إذا دعت الحاجة لذلك، وبسبب هذا التوجه العام انعدم التناحر بين الأديان والمذاهب، علماً بأن هذا التناحر فى المنطقة بدأ منذ زمن طويل، خصوصاً أيام الصراع بين الدولة الصفوية والدولة العثمانية، ومن بين نتائج هذا التناحر فى أوائل القرن التاسع عشر أنه تم تقسيم أراضى أذربيجان إلى ثلاثة أقسام، الأول سيطرت عليه إيران تحت اسم إقليم جنوب أذربيجان، والثانى تم ضمه إلى تركيا وأرمينيا الغربية، والثالث هو الذى يشكل جمهورية أذربيجان الحالية، التى ضمها الاتحاد السوفييتى إلى إمبراطوريته عقب نهاية الحرب العالمية الثانية.
وأكد «حسينوف» أنه منذ نحو عشر سنوات هناك دوائر غربية تقوم بإثارة الفتن والنزاعات فى المنطقة بأكملها وخصوصاً فى العراق وسوريا والآن مصر، مشيراً إلى أن الحل يكمن فى تضامن وتوحد العالم الإسلامى بأكمله.
ويسهب فى الشرح: خلال الحكم السوفييتى الذى استمر سبعين عاماً، لم نشعر بالمذهبية باستثناء بعض العائلات التى عُرفت أنها سنّة أو شيعة، وبعد الاستقلال أوائل التسعينات تعرضت دولتنا لمحاولات من أتباع ثلاثة أطراف خارجية، حاولوا العبث واللعب على الورقة المذهبية، الأول من إيران المجاورة للترويج للمذهب الشيعى، والثانى من تركيا للترويج للمذهب الحنفى والنقشبندى، والثالث من السعودية للترويج للفكر الوهابى.. الآن بالطبع نعلم أن هناك رياحاً تهب من الخارج بشكل خفى، ونعلم أن محاولات أجنبية تمت لتجنيد بعض مواطنينا، وتلقينهم أفكارهم المتطرفة، لكننا نقوم بمتابعة الأمر، وفضح هذه المخططات، وبفضل السياسة التى نتبعها تمكنّا من لجم غالبية التدخلات وطردهم خارج حدود البلد، ثم إن دولتنا القوية تقوم بإحباط أى محاولات للفتنة فى وقتها.
ووصف «حسينوف» العلاقات مع مصر بأنها جيدة، وتمضى قدماً، وقال: نحن نحترم خيار الشعب المصرى، والرئيس السيسى صديق لأذربيجان، وننتظر زيارته لنا، وأنا شخصياً زرت مصر مرتين، كما زرت شرم الشيخ، ويضيف: لدينا علاقات مع إيران وإسرائيل وأمريكا، ولا نحب أن نخلط بين المسائل والموضوعات، ولا نحب الدخول فى تفاصيل الخلافات بين أمريكا وإيران، كما أننا محايدون فى الصراع بين الخليج وإيران، كما نؤيد إرادة الشعب السورى ووحدة الأراضى السورية، والشعب هو من يحدد مصير الرئيس الأسد.
يضيف «حسينوف»: «نحن نعتبر الإسلام جسراً بين الله والإنسان، ولدينا حرية الاعتقاد، وكل مذهب يؤدى مناسكه الدينية بحرية، لكن هذه الحرية لا ينبغى لها أن تتدخل فى القيم العلمانية السائدة فى الدولة، إذا حدث ذلك فإن الدولة تتدخل لتضبط الأمور، مثلاً فى قضية الزى الرسمى يتم فرضه وحمايته بالقانون، ولا يمكن لموظف أن يأتى إلى عمله بأى ملابس لها دلالة دينية، وبعد نهاية العمل يمكن أن يذهب إلى المسجد أو الكنيسة كما يشاء».
وبمشاركة عدد من المسئولين فى أذربيجان والسفراء والشخصيات العامة، انطلقت ندوة تحت عنوان «دور الإعلام فى تعزيز التضامن الإسلامى»، وتحدّث بهروز حسينوف المسئول فى قسم العلاقات السياسية والاجتماعية برئاسة جمهورية أذربيجان، عن ضرورة تكثيف علاقات التعاون بين مصر وأذربيجان خصوصاً، وسائر البلدان الإسلامية عموماً، مشيراً إلى المرسوم الرئاسى الذى أصدره الرئيس الأذربيجانى إلهام علييف باعتبار عام ٢٠١٧ عاماً للتضامن الإسلامى، وتطرّق حسينوف إلى احتلال أرمينيا لـ20% من أراضى بلاده، وهدمها للمساجد والآثار الإسلامية هناك، معرباً عن أسفه لعدم وضوح هذه الصورة فى إعلام العديد من البلدان الإسلامية.
وأكد فاضل عباس، مؤسس أول وكالة أنباء مستقلة فى أذربيجان ورئيس رابطة صحفيى دول العالم الإسلامى، أنه تم طرد ٢٧ ألف أذربيجانى من أرمينيا والمناطق التى احتلتها، وأنه شخصياً وُلد ونشأ فى أحد الأقاليم المحتلة، وهناك هدم الأرمن أكثر من 50 مسجداً ومركزاً ثقافياً فى كاراباخ، لإحداث عملية تغيير ديموغرافى فى المنطقة. وأشار «عباس» إلى مساعدة بعض الأوروبيين للأرمن من منظور صليبى محض.
وأشار نجاد ممدلى، ممثل اللجنة الحكومية المعنية بالتعامل مع المؤسسات الدينية، إلى ما قاله بروفيسور إيطالى عن أن أذربيجان هى البلد الإسلامى الوحيد الذى يصلى فيه السنّة والشيعة معاً، وأنه لا فرق بين سنى وشيعى أو مسلم ومسيحى ويهودى فى بلاده، وأن صلاة الجمعة تقام خلف إمام واحد فى جامع حيدر فى باكو، وهو أكبر جامع فى جنوب القوقاز، كما يوجد معبد يهودى هناك أيضاً.
وتحدّث أوميد ميرزاييف، رئيس مركز أوراسيا، الراعى الرئيس للندوة، فقال: نحن كمركز مستقلون، لكننا ننسق أيضاً مع الدولة، ولدينا شبكة كبيرة من الخبراء المتميزين، ولنا صفة مراقب فى الأمم المتحدة. وأضاف أن هذه الزيارة للوفد الإعلامى المصرى تحظى برعاية كاملة من الرئيس الأذربيجانى إلهام علييف، متوقعاً وجود تعاون مثمر بين البلدين فى المستقبل، وفتح آفاق جديدة. وتحدّث «ميرزاييف» بإسهاب عن العلاقات التاريخية بين البلدين، وأن علماء كثيرين من أذربيجان زاروا مصر وتعلموا وأقاموا فيها. وطالب «ميرزاييف» الإعلام المصرى بأن يرى ويرصد وينقل الحقيقة عما يحدث فى إقليم كاراباخ المحتل.
وتطرّق السفير المغربى فى «باكو» محمد عادل إلى تسامح المسلمين، مستشهداً بطرد اليهود من الأندلس على يد المسيحيين، حينها لم يجدوا لهم موطناً سوى فى المغرب العربى الإسلامى.
وأكد السفير شاهين عبداللطيف، الذى شغل منصب سفير أذربيجان فى القاهرة، أن الأذربيجانيين يكنُّون الكثير من مشاعر الود والصداقة والتقدير لمصر وللمصريين. وأضاف: «كنا نعتقد أن كوننا مسلمين يفتح لنا كل الأبواب فى البلدان الإسلامية، فيما يتعلق خصوصاً باحتلال أرمينيا لإقليم كاراباخ، لكننا فوجئنا بأن ذلك ليس صحيحاً فى كل الأوقات»، مشيراً فى هذا الصدد إلى تأثير اللوبى الأرمينى فى بعض البلدان العربية والأوروبية.
وتحدّث السفير الفلسطينى فى «باكو» ناصر عبدالكريم، عن ظاهرة الإسلاموفوبيا التى استغلت الإرهاب لتشويه صورة العرب والمسلمين، ولفت السفير الفلسطينى إلى ما فعلته الدعاية الصهيونية، حينما نشرت على «السوشيال ميديا» صورة لياسر عرفات وهو يحتضن القس الفلسطينى الشهير والمحترم صاحب المواقف الوطنية والعروبية «كابوتشى»، لكنهم زوّروا الحقيقة وكتبوا أنه «قس أرمينى» لكى يشوهوا صورة الفلسطينيين فى نظر أهل أذربيجان.
مواضيع: