فادي البطش.. قصة عالم لم تكتمل

  02 ماي 2018    قرأ 2204
فادي البطش.. قصة عالم لم تكتمل

مطلع فجر السبت قبل الماضي، توالت الرسائل تباعًا على الهاتف المحمول للسيدة الفلسطينية، إيناس حمودة (31 عامًا)، يطمأن مرسلوها على أخبارها وزوجها.

لم يكن من عادة أولئك الأصدقاء، الاطمئنان على الشابة إيناس، في مثل هذه الساعة المبكرة، وبإرسال هذا العدد من الرسائل دفعة واحدة، مما أثار الشك في نفسها، والقلق على زوجها العالم الفلسطيني، “فادي البطش”، الذي غادر المنزل لإمامة الناس في صلاة الفجر.

 

سريعا أجرت اتصالا على هاتف زوجها، لكن لا صوت يأتي إلى مسامعها سوى رنين الهاتف، وما من أحد مجيب، على غير العادة.

أسرعت “إيناس”، الأم لثلاثة أطفال، نحو الشرفة، لتبحث عن تفسير لقلقها وشكوكها، وعدم إجابة زوجها على اتصالها، فوجدت الشرطة الماليزية والإسعاف، قد أحاط المكان، والناس متجمهرين.

ارتدت ثيابها، وهرولت خارج المنزل، تقول لوكالة “الأناضول”:” كان الجميع يبكون، لقد كانوا في صدمة كبيرة، كلما سألت أحدهم ماذا يحدث وأين فادي، لا يجبون، ويكتفون بالبكاء أو الصمت، أو الرد على استحياء”.

وبعد دقائق معدودة علمت “إيناس”، بمقتل زوجها على يد مجهولين.

وقتل العالم الفلسطيني البطش، فجر السبت الماضي، أثناء خروجه من المسجد المجاور لمنزله، في العاصمة الماليزيا، كوالالمبور، برصاص مجهولين، كانوا يستقلون دراجة نارية، حيث أصابوه بنحو 14 رصاصة، أردته قتيلا على الفور.

وولد البطش الذي يعمل محاضراً في جامعة ماليزية خاصة، في مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين شمالي قطاع غزة، وهو متزوج وأب لثلاثة أطفال.

وحصل على درجتي البكالوريوس والماجستير في الهندسة الكهربائية من الجامعة الإسلامية في غزة أواخر عام 2009، وعقب ذلك تمكن من الحصول على قبول الدكتوراه من جامعة “مالايا” الماليزية.

بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الهندسة الكهربائية وتحقيقه إنجازات علمية، سرعان ما حصل على منحة خزانة الحكومية (Yayasan Khazanah 2016) كأول عربي، وهي الأولى في ماليزيا من حيث جودة المنحة ومن أفضل الجوائز العالمية.

وتقول إيناس عن وقت الحادث :” لقد خرج كعادته لأداء الصلاة، لم أتوقع نهائيًا أن يستشهد في ماليزيا، كان دائما يطلب الشهادة من الله، ولكن كنت أعتقد أنه سينالها في غزة، وليس هنا”.

وتلقت إيناس، خبر مقتل زوجها بـ “القبول”، كما تصف، لأن “الشهادة كانت حلمه”.

وتتابع بصبر:” في البداية شعرت أن الدنيا أقفلت في وجهي، لكني استدركت نفسي فيما بعد”.

وتصف البطش زوجها بـ “الحنون جدًا، والرائع والطيب للغاية معها ومع أطفالها، رغم انشغالاته الكبيرة، إلا أنه لم يتأخر عن أسرته يومًا”.

وتتابع:” لم يكن يقصر معي كزوج وأب، يلبي كافة احتياجات منزله، بالرغم من مشاغله وأعبائه الكبيرة والكثيرة”.

وتضيف:” في ماليزيا لدينا يومان إجازة، أحدهما خصصه فادي بشكل كامل للعائلة، فيه كان يتفرغ لتلبية كافة احتياجاتنا، نخرج للتنزه، وللتسوق، لم يكن يكلفني عناء التسوق، ونجلس نتسامر ونتحدث”.

“لقد كان يومًا للعائلة فقط، لم نكن نفرط به أبدا”، حسب إيناس.

وتستذكر أحد المواقف في “يوم العائلة”، قائلة:” كنا نتسوق في أحد المرات، وابنتي تضع العديد من السكاكر والبطاطس المقلية والألعاب في عربة التسوق، وأنا أرجعها، لكنه كان يقول لي، دعيها تأخذ ما تشاء إن هذا سيفرحها”.

واستدركت:” كان يخبرني دومًا بأنه بجانبي في أي وقت، وليس في هذا اليوم فقط، ويقول لي إن رغبتي في أي شيء، أو كنت محتاجة لي، لا تترددي بالاتصال بي في أي وقت، وسآتيك فورًا”.

وكثيرة هي الأيام التي شعرت فيها إيناس بالضيق، والرغبة في الاتصال بزوجها كما طلب منها، لكنها تقول “بأنها هي من كانت تترد في الاتصال؛ لمعرفتها بانشغاله، رغم يقينها من أنه سيتفرغ لها فورا”.

وتابعت:” كنت بعض الأوقات أتصل به لأستشيره في أبسط الأشياء، ويجيبني بكل رحابة صدر، كان معلما لي وناصحا، وحريصًا على مصلحتي جدا”.

وعندما أنجبت إيناس ابنتها الأولى والثانية، تقول “أنها توقعت أن يشعر زوجها بالحزن كما البعض، لكنه كان سعيدًا جدًا، ويقول لقد فتح لي بابًا جديدًا للجنة”.

وفي المنزل كان يسعى “البطش”، لراحة زوجته، فهي ذات مرة اشتكت له من تعبها في غسل الثياب، فقال لها:” اتركي هذه المهمة لي، وبالفعل فور عودته من الخارج يبدأ بغسل الثياب ونشرها، كانت مهمة اليومية”.

وقبل اغتيال البطش بثلاثة أسابيع، قام بطلاء المنزل، وهمّت زوجته في تنظيف الأرضية من آثار الطلاء، فأخبرها بألا تفعل بل تذهب لتأخذ قسط من الراحة، “فهذا عمله هو”.

وتكمل:” لم يكن لديه مشكلة أبدا في أن يبادر دوما في إرضائي إن حدث بيننا سوء تفاهم، وحتى وإن كنت أنا السبب به، كان يأتي ويقبل رأسي ويدي، ويقول لي أهم شيء بالنسبة لي أن تكوني سعيدة”.

وتزوج البطش، في عام 2006، وكان شرطه في شريكة حياته، أن تكون حافظة للقرآن، حسب زوجته.
وأردفت إيناس:” قال لي بأنه تزوجني لأنني حققت شرطه، وأمه كانت تسأله قبل الزواج هل تريد مواصفات جمالية معينة في العروس، أو الجلوس معها قبل خطبتها، فيقول لا فقط حفظ القرآن”.

وتجري عادات الزواج غالبًا في غزة، أن تتوجه والدة الشاب، لمنزل الفتاة لخطبتها، ومن ثم يجلس العروسان معا في حضور الأهل للتعارف، قبل البدء بمراسم عقد قران الزواج.

حياته العلمية وحبه للعلم
كان البطش طموحًا جدا، يسعى للأفضل دومًا، لا يتوقف عن العلم وعمل الأبحاث المحكمة، وأيضًا في الصعيد الديني، كان حافظًا للقرآن الكريم، ومدرسًا له، وفق زوجته.

وأردفت:” كان محكّمًا في العديد من المجلات العلمية الأجنبية، ونشر 18 ورقة بحثية في مجلات محكّمة، وحصل على درجة الإجازة والسند في القرآن”.

وتابعت:” حصل على الكثير من الشهادات والعديد من الجوائز”.

وحصل البطش على العديد من الجوائز، مثل جائزة الخزانة لأفضل باحث عربي، والمركز الأول في مسابقة “3 دقائق”، والتي يتحدث فيها المتسابقون عن أبحاثهم في ثلاث دقائق فقط.

وتقول إيناس بأنه كان يحثها دومًا على العلم، “لم أكن أفكر في دراسة الماجستير، لكنه شجعني بشدة، وعندما أنهى الدكتوراة أصر على أن أحصل عليها أنا أيضا”.

“لقد كان يقول لي صبرتِ عليّ خمس سنوات عندما كنت أقدم الدكتوراة وأنا اليوم مصرّ على أن تحصلي عليها، كنت أرى ان هذا الأمر صعب ومتعب لأنني أم وزوجة، لكن فادي كان يشجعني دوما”، وفق إيناس.

وبالفعل التحقت إيناس بطلبة الدكتوراة في مجال “طرق التدريس”، لكن اغتيال زوجها أوقف مشوراها العلمي، “لكن أصر على إكماله”، كما تقول.

وأكملت:” كان يقول لي أثناء الدراسة، ليس بالضرورة أن تنظفي المنزل كل يوم، أحضري عاملة لتساعدك في ذلك، ولا تعد الطعام يوميًا بإمكاننا طلبه من أحد المطاعم، المهم أن تتفرغي للدراسة”.

“أذكر ذات مرة، أنني سألته هل يمكننا أن نسافر إلى بلد آخر، فأجابني لا بالطبع، أكملي دراستك أولا”، وفق إيناس.

وأكملت:” كان يحب العلم كثيرًا، ويحب أن يتعمق فيه، وهذا ما كان يفعله معي ومع أطفاله وطلابه”.

وذات يوم ومن باب المزاح قالت إيناس لزوجها “سأزوج ابنتاي قبل إتمام تعليمهن الجامعي، لكنه رفض وقال لي بأنهما عليهما أن يتمّا دراستهما الجامعية، أنا لا أفرق بين البنات والأولاد، كلهم عندي متساوون”.

وكان البطش كما تقول زوجته، “حريص على صقل مهارات أبنائهم في المجالات كافة، وأن يجمعوا الكثير من العلوم، فقد كان يسجلهم في النوادي والدورات الدينية والترفيهية والثقافية”.

وتقول إيناس:” في سبيل العلم مستعد فادي أن ينفق الكثير من الأموال، فمثلا الرسوم المدرسية لابنتي الكبرى، مرتفعة، لكن عندما كان يدفعها كنت أشعر بأنه سعيد للغاية”.

وغادر البطش قطاع غزة في عام 2011، بهدف الحصول على درجة الدكتوراة، حسب زوجته

موقف إسرائيل من البطش

وعن تصنيف بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية لـ”البطش”، بـ “مهندس حماس”، تقول إيناس:” الرواية الإسرائيلية غير صادقة، فادي لا علاقة له بالعمل العسكري، أو السياسي، أو التنظيمي”.

وأكملت:” فادي إنسان مبدع طموح، مخترع عالم في مجاله، ربما علمه وأبحاثه هي التي أخافت إسرائيل منه، ولأنه ببساطة فلسطيني مسلم، إسرائيل تريد قتل هذا العقول فقط لا أكثر”.

ولم يسبق للبطش أن تعرض لأي تهديدات، حسب زوجته، ولم يكن في حسبان الزوجين بالمطلق أنه سيتم اغتياله، “فهو إنسان ذو شخصية محبوبة وودودة من قبل جميع من عرفه سواء مسلمين أو غير مسلمين”.

واستدركت:” لست أنا من كنت في صدمة ومفاجأة فقط، الكل تفاجأ بالخبر”.

حياته الدينية

وتستذكر إيناس عند حلول شهر رمضان، في أول عام وصلوا فيه إلى ماليزيا، حيث لم يجد مسجدًا قريبا ليصلي فيه، غير مصلى كان شبه مهجور بالقرب من البيت.

وأكملت:” اتفق مع المسؤول عن المصلي، لإحياء الصلاة فيه، وقسموا الإمامة فيما بينهم، ونفذ عدة أنشطة فيه، وجميع الجيران يشهد بأن البطش نجح في إحياء المكان إلى أعلى درجة”.

وتقول:” أمانة تربية الأبناء الآن ثقيلة جدًا، سأسعى لتربيتهم تربية تليق بوالدهم الشهيد، الآن أنا جالسة أجمع نفسي، لأعرف كيف سأربي أبنائي”.

وأنجب البطش ثلاثة أبناء، دعاء (6 سنوات)، وأسيل أربعة أعوام، ومحمد عام واحد.

صفاته وعلاقته بالآخرين

وعن علاقته بمن هم حوله في ماليزيا، تقول:” كان محبوبًا من الجميع، ضحوكًا، يتحدث لكل من هم حوله ويسأل عن أحوالهم”.

وأكملت:” يوم استشهاده، زارتني جارتنا الصينية غير المسلمة، كانت تبكي بشدة، وتقول لي لقد افتقدته، إنه طيب، كان يسأل عني وعن أبنائي دوما، كلما التقينا عند المصعد، ويفتح لي الباب عند دخول المصعد والخروج منه”.

وأشارت أنه لم يكن يفرق في معاملته للمسلمين وغير المسلمين من كلا الجنسين، أو بين المحجبة وغير المحجبة.

على الرغم من انشغاله في علمه وعمله، إلا أنه لم يكن مقصرًا في مجال الدعوة إلى الإسلام، وتقول إيناس:” كان يُدرس الماليزيين والعرب القرآن ببعض قراءاته المختلفة، وحصل على السند والإجازة بالقراءة بثلاث روايات للقرآن، وكان يسعى للحصول على الرابعة، لكنه استشهد”.

ومنذ الصباح كان يتوجه البطش إلى الجامعة، ثم يعود للمنزل عند السادسة، ثم يخرج لصلاة المغرب، يعقد بعدها حلقة تعليم القرآن، في مؤسسة ماليزية مخصصة لذلك، وعقبها يتوجه إلى أحد المساجد لتعليم الناس هناك قراءة القرآن، إنه على هذا الحال من أكثر من عام ونصف العام.

ولفتت إيناس، إلى “أن زوجها كان يشتكي من تعبه، إلا أنه يقول لها، فليكن هذا في سبيل إرضاء الله”.

كان البطش زوجًا طيبا حنونا متفرغ لأسرته، رغم انشغاله الكبير في علمه وعمله، ويسعى دومًا للدعوة إلى الإسلام، وفق زوجته.


مواضيع:


الأخبار الأخيرة