علي الشوك يكتب سيرته «قبل ضمور الذاكرة»

  15 أغسطس 2017    قرأ 840
علي الشوك يكتب سيرته «قبل ضمور الذاكرة»
صدرت عن دار المدى ببغداد السيرة الذاتية للباحث والروائي علي الشوك تحت عنوان «الكتابة والحياة»، وهي سيرة جريئة بكل ما تنطوي عليه الكلمة من معنى رغم استئذانه من بعض الشخصيات النسائية، واستعاضته بالأحرف الأولى لشخصيات آخر آثرت البقاء خلف الستائر المُعتِمة لأنها لم تتعلم مواجهة الذات طوال حياتها فكيف تستطيع مواجهة الآخرين؟
قبل أن نلج في تفاصيل هذه السيرة الذاتية الشائكة لا بد من الإشارة إلى أن علي الشوك قارئ نهم أحبّ قراءة الأدب والفن واللغة، ولعله انقطع زمناً طويلاً لقراءة الرواية، وتعلق بأبرز أساطينها أمثال تورغينيف، دستويفسكي، ستندال وغيرهم من الذين تمنى مجاراتهم، والكتابة على غرار ما كتبوه من أعمال إبداعية خالدة مثل «الحب الأول»، و«المقامر» و«الأحمر والأسود».
وُلد علي الشوك في كرادة مريم ببغداد عام 1929، وحين أكمل المرحلة الثانوية ابتُعِث إلى الجامعة الأميركية ببيروت عام 1947 لدراسة الهندسة المعمارية التي لم يخترها بنفسه، وسوف يبدّل اختصاصه في بيركلي ليدرس الرياضيات. أفاد من بيروت، التي يعتبرها مدرسته الأولى، في التعامل مع اللغة والتاريخ والأسطورة بفضل البروفسور أنيس فريحة. أما بيركلي التي درس فيها الرياضيات فقد فتحت شهيته على الموسيقى وأتاحت له مشاهدة معظم أوبرات فيردي، وفاغنر، وموتسارت وسواهم من كبار المبدعين الذين سيسهمون في تأسيس ذائقته الموسيقية.
كان الشوك ذا نزعة يسارية منذ أيام بيروت وبيركلي، وحينما عاد تلقفه «الرفاق» فانتمى إلى الحزب الشيوعي وتقبّل ظروف العمل السري «عن غير قناعة فطرية» (ص22) لكنه تعرّض للتنكيل في أواخر عام 1956 لأنه لم يقدّم للوزارة أسماء الطلاب الذين تظاهروا مؤيدين تأميم قناة السويس.
لم ينجُ علي الشوك من الازدواجية، فهو ماركسي لكنه ينتمي إلى أسرة أرستقراطية، اشتراكي لكنه لا يمقت العالم الرأسمالي، طوباوي لكنه يعيش على أرض الواقع ويلهث خلف الحسناوات بحجة الإلهام الروائي. لا بد من الوقوف عند علاقته الوطيدة مع الدكتور نوري السعدي، هذا الكائن المتحرر جداً الذي تماهى مع الشوك وبات يشعر بالعزلة من دونه. دعونا نؤجل الحديث عن المرأة والصداقة ونتوقف قليلاً عند السياسة التي أفضت به بعد انقلاب 1963 إلى السجن في «قصر النهاية» والتعذيب الذي لم يتحمله أكثر من ثلث ساعة فقدّم «اعترافه» ونجا بجلده ليقرر عام 1979 الفرار من «بلد يحكمه رجل مشبوه، ويتصرّف بمصائرنا كما يشاء» (ص160). وسوف تستمر رحلة المنفى وعذاباته إلى تشيكوسلوفاكيا ومنها إلى المجر قبل أن يستقر به المقام بلندن التي تمنحه حق اللجوء السياسي وتتكفل بسكنه ومعيشته إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.
نساء علي الشوك كثيرات بما فيهن بطلاته الروائيات اللواتي ألهمنهُ جلّ نصوصه الروائية ولكن تظل هناك سيدة واحدة متميزة لأن جميع النساء اللواتي تعرّف عليهن «جئن عن طريقها»(ص95). ثم يمضي إلى القول إن تلك المرأة كانت الأهم في حياتي وأقربهن إلى نفسي، «وأنا هنا لا أعني بذلك أن هناك حُباً أو عشقاً بيني وبينها» (ص96). وإنما يعتبرها حضناً عائلياً ويضعها في مستوى علاقته بنوري السعدي الذي كان يبوح له بكل خلجات مشاعره، الأمر الذي أفضى إلى الانسجام الهائل بينهما.
كان علي الشوك باحثاً ومفكراً ولغوياً قبل أن يكون روائياً فلا غرابة أن يعترض البعض في حينه على ترشيحه للهيئة الإدارية لاتحاد الأدباء لأنه «مثقف، وليس أديباً» (ص72). وكان يُدرك سلفاً أن ثقافته الموسوعية سوف تنأى به عن عالم الرواية والأدب الذي بدأهُ بعد خمسين عاماً من القراءة والكتابة والتجارب العاطفية والاجتماعية والسياسية. وكان لا بد له أن ينجز عدداً من الكتب التنظيرية المتخصصة فأصدر «الدادائية بين الأمس واليوم»، «الأطروحة الفنطازية»، «الموسيقى الإلكترونية»، «من روائع الشعر السومري»، «جولة في أقاليم اللغة والأسطورة»، وسواها من الكتب الثقافية الرصينة لكن همّه كان منصباً على الأدب. ولسوء الحظ أصدر مسرحية «الغزاة» التي فشلت وتعرضت للنقد لأنه لم يكن يتوفر على خبرة بفن المسرح، وظل رهانهُ قائماً على الرواية التي يربطها دائماً ببطلة خارقة الجمال مثل «زينايدا» في «الحُب الأول» و«ماتيلد» في «الأحمر والأسود» وغيرهن من الفاتنات خصوصاً إذا كنّ يُجدن الرقص. وكانت تلك المتميزة قد عرّفته على بعض النساء الألمانيات، كما تعرّف إلى (غ) التي اعتبرها ملِكة وأجمل امرأة في الوجود، وقد دخلن نصوصه الروائية تباعاً لكنه لم يحقق الرواية العصيّة على الكتابة مع أنه ظل يزعم طوال حياته بأنه يروم كتابة اللامكتوب أو الرواية الحلم التي لا ترخي الطبع ولا تسلس القياد إلاّ لأصحاب المواهب الكبيرة الذين غيّروا ذائقة القرّاء في مختلف أرجاء العالم.
من حسنات علي الشوك أنه يستأنس بآراء بعض الكُتاب من أصدقائه المقرّبين أمثال فؤاد التكرلي، كامل شياع، غانم حمدون وآخرين ولا يدفع مخطوطته للنشر إذا كانت آراؤهم متحفظة أو سلبية. ومن مثالب هذا الرجل هو غروره أو ثقته العالية بالنفس وإلاّ فكيف نبرِّر مقولته المثيرة للاستغراب: «أنا أعلم أنني مثقف من الطراز الأول في كل شيء تقريباً، لكنني أحب الرواية والموسيقى أكثر من أي شيء» (ص72).
على الرغم من رصانة أبحاثه، وعمق دراساته اللغوية فإنه يتواضع أحياناً حينما ينتبه إلى تفوّق الأوروبيين في بعض المجالات البحثية. فحينما أنجز كتابا عن الجذور المشتركة بين اللغات السامية - الحامية واللغات الهندية - الأوروبية نصحه أحد المستشرقين بقراءة كتاب «محاولة في المقارنة بين اللغات» لإيليتش سفيتش الذي يتناول العلاقة بين ست مجموعات لغوية، وحينما قرأه شعر بالفارق المعلوماتي الكبير فقال بتواضع شديد: «شعرتُ كم نحن متخلفون بالمقارنة مع الآخرين، لا سيما الروس أو السوفيات» (ص94).
لا بد من الإقرار بأن معظم روايات علي الشوك جريئة، ومثيرة للجدل في ثيماتها الرئيسية مثل «أحاديث يوم الأحد»، «مثلث متساوي الساقين»، «فتاة من طراز خاص»، «تمارا»، «فرس البراري»، وبقية الروايات الخمس التي تتمحور حول موضوعات سياسية وثقافية وفنية. وكالعادة فقد استقبلها النقّاد بطرق مختلفة وخاصة رواية «الأوبرا والكلب»، التي قرأها البعض بتعالٍ مثل الناقدة فاطمة المحسن، وبعضهم الآخر استقبلها بمحبة وإعجاب مثل الروائي محمود سعيد.
يحتاج العالم الروائي الذي خلقه الشوك إلى دراسات معقمة تتناول الثيمات، والشخصيات، واللغة، والبناء المعماري وغيرها من المعطيات الفنية والفكرية والإبداعية التي تتطلب قراءات تفكيكية بِعُددٍ نقدية متطورة جداً تستطيع أن تبرهن فعلاً أن «الجمال هو أعظم قوة على وجه الأرض»، كما يذهب الروائي الفرنسي أناتول فرانس.
يختم علي الشوك سيرته الذاتية بالقول إنه كَتَبها «بكل تلقائية وصدق» (266)، ولا غروَ في أن يعترف في عامه الثامن والثمانين بالتعب، والإجهاد، وانطفاء الجذوة، وضمور الذاكرة وهذه من اشتراطات الشيخوخة التي لن يفلت منها أحد، ومع ذلك فهو يصرخ في المضمار الأخير: «أيتها الأفكار لا تخذليني، ويا صفاء الذهن هلّم إلي ولو بجزءٍ من طاقاتك» (ص268).

مواضيع: علي-الشوك   قبل-ضمور-الذاكرة  


الأخبار الأخيرة