ولوح الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، اليوم، باحتمال فرض بلاده "عقوبات كبيرة" على تركيا، بسبب اعتقالها قسا أمريكيا تتهمه أنقرة بالتجسس والإرهاب، لكن ترامب يصفه بـ"المؤمن البريء"، ويدعو إلى إطلاق سراحه فورا، الأمر الذي استدعى ردا من أنقرة قالت فيه بأنها "لن تقبل أي تهديد أو وعيد".
في المقابل، كتب وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" يقول: "لا أحد يمكنه إصدار أمر لتركيا. لن نقبل أبداً التهديدات مهما كان مصدرها. إن دولة القانون تنطبق على الجميع من دون أي استثناء".
وكانت هذه القضية كشفت عمق التوتر الكامن في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة، العضوتين في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
فبدءا من سوريا ومرورا بحقوق الإنسان والسياسة الخارجية، ووصولا إلى محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عام 2016، وصفقة صواريخ "S-400" بين موسكو وأنقرة، يبدو أن النزاعات بين البلدين لا عدّ ولا حصر لها ولا نهاية منظورة لها.
ويعتبر المراقبون أن "رئيسي البلدين صاحبا مزاج سريع التقلب، لذلك عندما يكون لديك شخصان بهذا الشكل لا يمكنك التنبؤ بما سيحدث غدا أو في اليوم التالي".
وخلال الأشهر القليلة الماضية، اقتربت العلاقات من نقطة الانهيار، بعدما شنت تركيا حملة عسكرية واسعة ضد المقاتلين الأكراد في عفرين بسوريا الذين تُسلحهم الولايات المتحدة وتعتمد عليهم، لكن أنقرة تعتبر أنهم إرهابيون مرتبطون بمسلحي حزب العمال الكردستاني الذين يقومون بتمرد داخل أراضيها منذ ثمانينيات القرن الماضي.
كما أن انعدام الثقة يتعمق بين أنقرة وواشنطن بسبب الداعية التركي فتح الله غولن الذي تتهمه أنقرة بأنه المخطط الرئيس لمحاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عام 2016، والذي يعيش الآن في الولايات المتحدة.
وتقول الحكومة التركية إن فتح الله غولن، الذي كان حليفا للرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل أن يتحول لألد أعدائه، يقود جماعة دينية تسلل أتباعها إلى كل جهاز من أجهزة الدولة التركية. وطالبت تركيا الولايات المتحدة بتسليمه، حيث يعيش في منفاه الاختياري منذ عام 1999.
وفي خضم هذا النزاع وغضب تركيا مما تعتبره عدم تضامن من جانب الولايات المتحدة بعد محاولة الانقلاب، اعتقل بعض الموظفين المحليين العاملين في البعثات الدبلوماسية الأمريكية في تركيا، بناء على أدلة لا أساس لها من الصحة، تقول إنهم على صلة بالانقلابيين.
وقد أدى ذلك إلى غضب الولايات المتحدة، التي علقت منح التأشيرات للمواطنين الأتراك. وردت تركيا باتخاذ نفس الإجراء.
ثم حصل هناك شجار عنيف شارك فيه الفريق الأمني للرئيس أردوغان أثناء زيارته لواشنطن، في انعكاس واضح لـ"ميوله القمعية".
وبعد ذلك، جاء رد الفعل الغاضب من جانب تركيا على إعلان الرئيس دونالد ترامب عن أن القدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها.
ثم ظهرت تقارير تشير إلى أن الولايات المتحدة ستشكل قوة حدودية جديدة في سوريا تتألف في الأساس من مقاتلين أكراد، مما يضر بأنقرة ... والقائمة تطول.
وتستخدم وسائل الإعلام الموالية للحكومة التركية خطابا مناهضا للولايات المتحدة باستمرار، وأشارت إحدى الصحف في افتتاحيتها في الآونة الأخيرة إلى واشنطن هي العدو الجديد لأنقرة، وأنه يجب على الشعب محاصرة القاعدة العسكرية الأمريكية هنا.
وقد أظهر استطلاع للرأي أن ثلثي الأتراك يعتبرون الولايات المتحدة أكبر تهديد لهم.
وقال أونال سيفيكوز، السفير التركي السابق في لندن: "قد تكون العلاقة الآن(بين أنقرة وواشنطن) هي الأسوأ منذ انفجار الأزمة القبرصية عام 1974".
وأضاف: "الأمر مهم لأن تركيا في منطقة مجاورة نواجه فيها الكثير من المشاكل التي سيكون لها تداعيات على أوروبا. ويشعر الأعضاء الجدد في الناتو والاتحاد الأوروبي بالقلق إزاء التقدم الروسي في أوكرانيا والقرم. ويحتاج حلف الناتو إلى التضامن، وهذا يعتمد على وجود علاقات جيدة بين تركيا والولايات المتحدة".
وعدا عن ذلك، خالف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سياسة الرئيس الأمريكي بشأن إيران، وأعلن أن تركيا لن تقطع علاقاتها التجارية مع طهران، باعتبارها شريكا استراتيجيا لأنقرة. وقال أردوغان الأربعاء، قبل توجهه إلى جنوب أفريقيا للمشاركة في قمة "بريكس": "قطع العلاقات مع شركائنا الاستراتيجيين الذين يتسمون بأهمية بالنسبة لنا، أسوة بالولايات المتحدة، يعارض مفهومنا عن السيادة"، مشيرا إلى أن "إيران جار وشريك لتركيا على حد سواء. ولدينا الكثير من المجالات المبنية على المنفعة المتبادلة".
ولزيادة الطين بلّة، تواجه أنقرة صعوبات في الاختيار بين أنظمة صواريخ "S-400" الروسية ومقاتلات "F-35"الأمريكية، إذ تهددها واشنطن بعدم تسليمها هذه المقاتلات التي تعاقدت على شرائها منذ سنوات، في حال مضيها قدما بصفقة الصواريخ مع موسكو.
ويتابع أردوغان في الوقت الحالي سياسة التعاون مع روسيا في العديد من المجالات، السياسية والأمنية والعلاقات الدولية، والعسكرية. ولكن الأهم من ذلك، التعاون الاقتصادي، وخاصة في مشروع الغاز "السيل التركي" وبناء محطة الطاقة النووية.
ففي الوقت الذي تشتري فيه أنقرة S-400، والمقاتلات الأمريكية، يبرهن أردوغان على تحقيق التوازن بين مركزي القوة. فهو يدرك جيدا أن ترامب ليس بسيطا كما تصوره كثيرون. فالرئيس الأمريكي يقود سياسة هجومية في وجه أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، بما فيها الصين، وبالنسبة لروسيا طبعا. وهو الآن يعيد تشكيل العالم وفقا للمصالح الأمريكية، وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال: هل ستصمد تركيا إذا رأت الولايات المتحدة حاجة لكسرها؟ يفهم الأتراك أن آفاق علاقاتهم مع الولايات المتحدة تعتمد إلى حد كبير على ما ستتفق عليه موسكو وواشنطن.
وكان انضمام تركيا لحلف الناتو عام 1952 قد جذبها إلى الغرب. وبدأت أنقرة قبل ثلاثة عشر عاما المفاوضات للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
لكن في ظل تدهور علاقات تركيا بكل من الناتو والاتحاد الأوروبي، بدأت أنقرة تعيد تنظيم نفسها باتجاه روسيا وبعض جيرانها في منطقة الشرق الأوسط، الذين لا ينتقدون تراجع الديمقراطية في ظل حكم أردوغان.
وهذا أمر خطير، لأنه من حيث التجارة والأمن والقوة العسكرية، فإن تركيا دولة مهمة جدا للغرب ولا يجب أن يخسرها.
باختصار، تمر العلاقات التركية الأمريكية بأسوأ مراحل العلاقات الثنائية، رغم التحالف العسكري بينهما، منذ الحرب الباردة، ورغم محاولات رأب الصدع التي يبذلها جهابذة الناتو القلقون من انهيار جناحه الشرقي أو دخوله تحت عباءة موسكو ولو إلى حين.
مواضيع: