حظر النقاب لتعزيز الإدماج والمساواة والسلامة العامة، لكن النتائج تكون عكسية.. 

  05 أغسطس 2018    قرأ 1571
حظر النقاب لتعزيز الإدماج والمساواة والسلامة العامة، لكن النتائج تكون عكسية.. 

كتبت الدنمارك هذا الأسبوع الفصل الأخير في قصة عالمية تصبح مألوفة بشكل غريب. إذ بدأ حظر النقاب أو أي «كساء يخفي الوجه في الأماكن العامة» –والذي يُفهم على نطاق واسع أنَّه يستهدف الحجاب الذي ترتديه النساء المسلمات، كالبرقع والنقاب- يدخل حيز التنفيذ يوم الأربعاء 1 أغسطس/آب 2018.

جميع الدول التي منعته اعتمدت نفس التسلسل
فُرضت القيود على ارتداء غطاء الوجه في الأماكن العامة بالفعل في فرنسا، وبلجيكا، وهولندا، وبلغاريا، والنمسا. أما في ما يتعلق بأستراليا وإقليم كيبيك الكندي فقد كانت قيد المناقشة. وحسب تقرير نشرته مجلة The Atlantic الأميركية، فإنه على الرغم من الفوارق الإقليمية، تَكرر نمط مماثل من الأحداث في بعض البلاد. ورغم أنَّ عناصر هذا النمط لم تظهر كلها في كل الدول، فقد اتبعت فرنسا وكيبيك والنمسا على سبيل المثال، تسلسلاً يبدو تقربياً كهذا قبل حظر النقاب:

أولاً، يقترح السياسيون في الدولة حظر النقاب الذي يرتديه عددٌ صغيرٌ من المسلمات، والذي يُجسّد تأدية لأحد تعاليم القرآن بـ»التستر والحشمة». يحاججون بأنَّ الحظر سيعزز الإدماج، أو السلامة العامة، أو بأنَّ ارتداء النقاب يتعارض مع القيم الوطنية مثل المساواة بين الجنسين. يناقش الخبراء والمشرعون السياسة جهاراً، وينتشر الجدال في وسائل الإعلام. يقدم قليلون بعض الاعتراضات القانونية، ثم في نهاية المطاف يُمرَّر مُقترح الحظر ليصبح قانوناً.

بعدها يتظاهر المسلمون في الشوارع مع غير المسلمين الذين يرتدي بعضهم الحجاب تضامناً. ثم تأتي جولة أخرى من الجدال العلني، والذي تفاقمه وسائل الإعلام. وبمرور الوقت، تُشير التقارير إلى أنَّ التمييز ضد المسلمين يزداد في البلاد. تبدأ العديد من المسلمات التمسك أكثر بهويتهن الدينية، ومن لم يرتدين الحجاب قبل الحظر يبدأن في لبسه الآن في فعل احتجاجي. وأخريات يلجأن إلى البقاء في المنزل، ورغم ذلك يستحيل تحديد مدى انتشار هذه الظاهرة.

إذا كان يُفترض حقاً أن يُعزز الحظر المساواة بين الجنسين، يبدو إذن أنَّه يأتي بنتائج عكسية. ثم بعد عدة أشهر، تسن دولةٌ أخرى حظرها الخاص، وتبدأ العملية بأكملها من جديد.

وهو ما ينطبق على آخر دولة أوروبية حظرت النقاب
حتى الآن، اتبعت الدنمارك هذا التسلسل. منذ تسع سنوات، دعا أنصار الحزب اليميني الدنماركي للمرة الأولى حظر النقاب في الأماكن العامة. لكن الخطوة وجدت لاحقاً دعماً في مكان آخر على الساحة السياسية. في الآونة الأخيرة، جادل ماركوس كنوث من الحزب الليبرالي الدنماركي (Venstre) الحاكم بأن تغطية الوجه بصورة تامة هو عملٌ «قمعي بشدة».  وصف سورين بابي بولسن، وزير العدل الدنماركي، النقاب بأنَّه «لا يتماشى مع قيم المجتمع الدنماركي». وصدر القانون الذي شرع الحظر في شهر مايو/أيار الماضي.

وبمجرد أن دخل القانون حيز التنفيذ يوم الأربعاء، تظاهرت مئات المسلمات وهن ترتدين النقاب الذي صار غير قانوني. وانضم لهن عدد من غير المسلمات اللاتي غطى معظمهن وجهوهن –بكل شيء بدءاً من النقاب، وحتى أقنعة الوجه على شكل رؤوس خيول – تضامناً مع المسلمات.

ما تسبب بمخاوف في صفوف المسلمين
تحدثت يوم الخميس 2 أغسطس/آب مع سابينا، وهي مسلمة تبلغ من العمر 21 عاماً، تعيش في كوبنهاغن وترتدي النقاب. (ورفضت الإفصاح عن اسمها الأخير للحفاظ على سلامتها). أخبرتني أنَّها تخشى أنَّ الحظر سيتسبب في عزل النساء اللاتي يرتدين النقاب في بيوتهن. وقالت: «لم أخرج طوال اليوم لأني حقاً يجب أن أضع في اعتباري ما إذا كان الأمر يستحق الخروج والتعرض للغرامة، لأني عُرضة للخطر الآن في كل مرة أخرج فيها من بابي بيتي. أنا مجرمة». يترتب على خرق الحظر دفع مخالفة قدرها 150 دولاراً في المرة الأولى.

لكنها أضافت أنَّها بالإضافة لنساء أخريات سيرفضن خلع النقاب، وقالت: «النقاب جزءٌ كبيرٌ من هويتي، إنَّه اختيار ديني، وقد أصبح الآن دلالة على الاحتجاج، في الحقيقة أؤمن بأنَّه حين يسن السياسيون هذه القوانين التمييزية نصبح أقوى. نشعر أنَّ هذا الحظر جعلنا أقوى، وأشجع، وأكثر جهراً (في معارضتنا). نحن حتى نشجع نساءً أكثر على ارتداء النقاب. تسبب هذا بالفعل في جعلي أكثر التزاماً بمعتقداتي، وأكثر تمسكاً بنقابي».

إذا كانت تجارب دول مثل فرنسا والكيبيك والنمسا لها أي دلالة، فهي على الأرجح أنَّ الحظر في الدنمارك سيواصل الإتيان بنتائج العكسية.

خاصة وأن تجارب سابقة كانت شاهدة على «التمييز» الذي تعرضت له «المنقبات»
مَنعت فرنسا الحجاب، والرموز الدينية الظاهرة الأخرى من المدارس العامة عام 2004، وحظرت النقاب من الأماكن العامة عام 2010. وصرح الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي قائلاً: «القضية تتعلق بحرية وكرامة المرأة. النقاب ليس رمزاً دينياً، إنَّه علامة على خضوع وإذعان النساء». لكن بدلاً من الاستجابة، بدأت بعض الشابات المسلمات في التعبير عن استيائهن من المجتمع الفرنسي، وضاعفن من عدد أولئك اللاتي يرتدين الحجاب كنوع من الاحتجاج السياسي. وقالت امرأة ارتدت الحجاب بعد عام  2010: «إنَّها طريقتي في النضال، في قول لا للحكومة التي سلبت حريتي».

أخبرني جيفري ريتز، عالم الاجتماع في جامعة تورنتو الذي يجري أبحاثاً عن هجرة المسلمين، أثناء مقابلة العام الماضي: «تسمى هذه الحالة «الاستجابة العرقية»، حين تكون لديك سياسة لحظر ممارسة (دينية) ما، يستمر الناس في ممارستها كنوع من الاحتجاج. في فرنسا، النتائج عكسية بوضوح».

والأكثر من ذلك هو أنَّ استطلاعات الرأي المتعلقة بالسلوكيات الموجهة للمسلمين الفرنسيين أظهرت أنَّ هناك ارتباطاً قوياً بين حظر الحجاب الذي غُطي إعلامياً بقوة في 2004، وبين زيادة المشاعر المعادية للمسلمين. عام 2013، تعرضت امرأة حامل للإجهاض بعد أن هاجمها رجلان بشكل غير قانوني لارتدائها النقاب، ونزعاه من على وجهها بينما كانت تسير في شارع إحدى الضواحي الفرنسية.

وأشار تقريرٌ في هذا العام إلى أنَّ المزيد من المسلمات يبقين في منازلهن لأنهن «يشعرن بعد الحظر بأمان أقل بكثير بسبب المضايقات والعنف الذي يمارسه العامة ضدهن والذين شجعهم الحظر.. فرض القيود على حركة وأمان النساء في المساحات العامة كانت له عواقب وخيمة ضخمة على صحتهن الجسدية والنفسية وعلى علاقاتهن».

وهو ما جعل دولاً مثل كندا تجمد «قانون الحظر»
في كندا، كانت مقاطعة كيبيك تناقش حظراً مماثلاً لسنوات. وعام 2013، سعى «ميثاق القيم» إلى حظر «التفاخر» بالرموز الدينية، ومن بينها النقاب، والحجاب، والعمامة، والكيباه بين العاملين من العامة، وجادل بأنَّ هذا الإجراء سيُعزز المساواة بين الجنسين. احتجت المسلمات في الشوارع، وانضمت لهن آلاف من غير المسلمات اللاتي ارتدى بعضهن الحجاب تضامناً. لم يُنفَّذ الميثاق أبداً، لكن الصيغة المعروفة بقانون Bill 62 مُررَّت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

رغم ذلك، طُعن أمام المحاكم على الجزء المثير للجدل في هذا التشريع، والذي يقضي بمنع النساء اللاتي يرتدين النقاب من الوصول للمرافق العامة، وعُلّق إنفاذه لحين المراجعة القضائية. وفي يونيو/حزيران هذا العام، علَّق قاض إنفاذه للمرة الثانية. ومع أنَّ هذا الجزء من القانون لم يدخل حيز التنفيذ بعد، أَبلغت الجمعيات النسوية بزيادة الهجمات اللفظية والجسدية ضد النساء المسلمات المنتقبات.

وقالت  فاليري ليتورنو، المتحدثة الرسمية باسم تحالف يجمع 17 مركزاً للنساء في كيبيك لصحيفة The Globe and Mail الكندية في مايو/أيار الماضي: «الأمر واضحٌ. منذ بدأ الجدال حول الميثاق، صارت زيادة التعصب ملموسة، إنَّ هذا يساهم في خلق مناخ من الخوف، تجد النساء المنتقبات صعوبة في مغادرة منازلهن». وأضافت أنها أُبلغت بعشرات من حالات التعدي على النساء المنتقبات خلال اجتماع واحد مع تحالفها. صدم رجلٌ عربة تسوق امرأة بسيارة وقال لها: «عودي لبلدك». وصرخ رجلٌ آخر في امرأة داخل الأتوبيس قائلاً: «لم يكن يجب أبداً أن نفتح لكم الباب». كما أصرت موظفات في مراكز نسائية أخرى في المقابلة على أنّه منذ بدأت الحكومة مناقشة الحظر، تشجع الناس على التصرف بعدوانية تجاه المسلمين. الأمر تماماً كما صاغته فابيان ماتيو: «لقد ألقوا القنبلة ونتعامل نحن مع الشظايا».

غير أن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للحكومات «الشعبوية»
في النمسا، كان لحظر ارتداء غطاء الوجه الذي دخل حيز التنفيذ العام الماضي، عدة عواقب غير مقصودة. فمعظم الأشخاص الذين قُبض عليهم لخرقهم القانون، ليسوامسلمات منتقبات. وعلى كل، هناك فقط 150 مسلمة في النمسا هن حقاً من يرتدين النقاب. تسبب الحظر في إقدام ضباط على تغريم رجل لارتدائه زياً له شكل سمكة قرش، وآخر لارتداء زي على هيئة أرنب. كما أوقفوا أيضاً سائحاً آسيوياً يرتدي قناعاً مضاداً للتلوث، ومريض لوكيميا أُمر بارتداء قناع لحماية جهازه المناعي.

وقال قائد الشرطة هيرمان غريلينغر: «لو كان الغرض من هذا القانون المساهمة في محاربة الإسلام المحافظ، فكل ما يمكنني قوله هو أنَّه أصبح غير سارٍ. يرفض بعض الضباط الآن تنفيذ القانون. ووصف أحدهم المنع بأنَّه «لا يمثل إلا الشعبوية».

في الدنمارك أيضاً، يقول المراقبون إنَّ الشعبوية أحد الأمور التي تحفز الحظر –ولا تمثل الدوافع كلها. ويقول ستيغ هجارفارد، وهو أستاذ في جامعة كوبنهاغن يدرس دور الدين في المجتمعات الإسكندنافية: «كان هذا التشريع يحظى بدعم المحافظين، والحزب الليبرالي، الديمقراطيين الاجتماعيين، يوجد كل من موقف شعبوي معاد للمهاجرين أو ضد الإسلام، وموقف تنويري علماني». ويجادل الموقف الثاني بأنَّ منع النقاب ضروري لتحرير النساء «المستضعفات».

قال هجارفارد إنَّ الرأي العام في الدولة كان يجري تغييره منذ سنوات، إلى درجة أنَّ الأغلبية الآن تعرب عن قلقها من كون الإسلام تهديداً للثقافة الدنماركية. ويضيف: «الدنمارك بلدٌ صغيرٌ للغاية لكن مقارنة بحجمها فقد انخرطت في الحروب في أفغانستان والعراق. لذا فالحرب الشاملة على الإرهاب والتساؤلات حول الإسلام وُضعت في أولوية جدول الأعمال في الدنمارك أكثر من دول مثل النرويج والسويد. وامتدت هذه التساؤلات إلى نقاش حظر النقاب، وجرى استغلالها، لا سيما من اليمين الشعبوي».

التي ترى في حظر النقاب مكاسب سياسية
وأضاف أنَّ سياسيي اليمين الدنماركي هذه الأيام يعتمدون إلى حدٍ كبير على سياسات الهوية كطريقة لتحقيق مكاسب سياسية، وأنَّ حظر النقاب يجب أن يُرَى في سياق التحركات الأخيرة الأخرى. مررت الحكومة في مايو/أيار قانوناً يفرض على الأطفال الذين يعيشون فيما سمته بـ»الغيتوهات» أو «المعازل» –وهي مجتمعات المهاجرين ذات الأغلبية المسلمة»– تلقّي تدريب عن «القيم الدنماركية». وفي الشهر نفسه، قالت إنغر ستويبرغ، وزيرة الهجرة الدنماركية إنَّه يجب على المسلمين البقاء في منازلهم أثناء شهر رمضان «لتجنب العواقب السلبية على بقية المجتمع الدنماركي»، زاعمة أنَّ العمل أثناء الصيام أمر «خطر».

رغم علمهم المسبق بالعواقب الوخيمة لذلك
وتقول أنيس دي فيو، عالمة الاجتماع التي قضت عشر سنوات في دراسة ممارسات الحجاب الإسلامي في أوروبا أنَّ حظر النقاب يمكن أن يكون له عواقب وخيمة. إذ كتبت في رسالة بريد إلكتروني: «تولّد هذه الإجراءات التمييز وتهميش الذات، ولأن هؤلاء النساء اللاتي يشعرن بالإقصاء سينعزلن أكثر»، مضيفة: «تخلق الضجة المحيطة بمثل هذه القوانين، والتي لا يتناسب حجمها مع الظاهرة نفسها (إذ ستتأثر من 50 إلى 200 امرأة بقرار حظر النقاب في الدنمارك) ردود فعل سيئة، لا تؤثر فقط على النساء اللاتي يرتدين النقاب. بل تؤثر على المجتمع المسلم بأكمله والذي يشعر بأنَّ هذه الإجراءات، مع كل هذه الدعاية، لمثل هذا العدد الصغير من المستخدمين (للنقاب أو الحجاب)، هي طريقة لإخبار المسلمين أنَّهم.. غرباء».

ألقت مجموعات حقوق الإنسان باللوم على قانون الدنمارك الجديد. وقال فوتيس فيليبو، نائب مدير منظمة العفو الدولية في أوروبا: «هذا الحظر الكامل غير ضروري وغير مناسب، وينتهك حقوق المرأة في حرية التعبير والدين. إذا كان الهدف من هذا القانون هو حماية حقوق المرأة فقد فشل في هذا بشكلٍ ذريع».

وعلى الرغم من هذه التصريحات، ورغم التأثيرات السلبية على المسلمين التي قد تترتب على حظر كهذا، ليس من المرجح أن يُلغى قانون الدنمارك الجديد. أيدتالمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قرارات الحظر باستمرار، إذ أيدت قانون منع الحجاب في فرنسا عام 2014، وقانون بلجيكا المماثل في 2017, واختارت منح كل دولة مساحة فضفاضة في تحديد ما تحتاجه للتأكد من السلامة العامة والتماسك الاجتماعي. على الأرجح لن تتغير دورة حظر النقاب في أي وقت قريب.


مواضيع:


الأخبار الأخيرة