ولا تقتصر تلك التدخلات على الدولتين الأشد تنافساً في العراق (الولايات المتحدة وإيران)، إنما تتعدى ذلك إلى لاعبين إقليميين بدرجاتٍ متفاوتة.
لمْ يتم الإعلان رسمياً عن تشكيل الكتلة النيابية الأكبر على الرغم من لقاء قادة قوائم قريبة من الولايات المتحدة «سائرون»، «الحكمة»، «النصر»، و«ائتلاف الوطنية»، في مقابل لقاءاتٍ مكثفةٍ لتحالف قائمتي «الفتح»، و«دولة القانون» مع القوائم الأخرى لتشكيل تكتّل سياسي قريب من إيران.
وعقدت قوائم عدة في 19 أغسطس/آب لقاءً موسعاً في بغداد، كان مقرراً له أن يعلن عن تشكيل الكتلة النيابية الأكبر بأكثر من 180 مقعداً، من أصل 329.
واقتصر حضور اللقاء على زعيم قائمة «سائرون» مقتدى الصدر (54 مقعداً) ورئيس قائمة النصر حيدر العبادي (42 مقعداً) وبعض قيادات ائتلاف العراقية (25 مقعداً) وعمار الحكيم رئيس قائمة الحكمة (20 مقعداً).
وتغيّب من المدعوين الذين سبق أن وافقوا على اللقاء قيادات المحور الوطني (نحو 35 مقعداً) وممثلو الحزبين الكرديين (نحو 40 مقعداً).
وأدى غياب المدعوين من ممثلي القوائم الكردية والمحور الوطني (سُنّي) إلى فشل الإعلان عن الكتلة النيابية الأكبر.
وعزّزت تحركات قاسم سليماني في أربيل وبغداد احتمالات دخول كتلة المحور الوطني (نواب سُنّة) والحزبين الكرديين الرئيسيين في الكتلة النيابية، بقيادة قائمة الفتح وائتلاف دولة القانون.
وتبذل إيران ما يكفي من الجهود لجمع الفريقين الشيعيين في ائتلاف شيعي موسّع على غرار الائتلاف الوطني الذي ساهمت إيران في تشكيله، بعد ضمّ الكتل الشيعية الأساسية عام 2009 ضمن هذا الائتلاف الذي أنتج حكومة نوري المالكي بدورتها الثانية (2010 إلى 2014).
لكنّ الخلافات العميقة بين رئيسَي قائمة «سائرون» مقتدى الصدر، و «ائتلاف دولة القانون» نوري المالكي بدت أكثر تعقيداً من محاولات قاسم سليماني، قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، لجمع الطرفين ضمن تحالفٍ واحدٍ يشمل القوائم الشيعية الخمس الرئيسية، إلى جانب قائمتين إحداهما سُنيّة والأخرى كردية؛ لإبعاد الصبغة الطائفية المطلقة عن التحالف الشيعي في تشكيل الكتلة النيابية الأكبر.ني
ويرجّح أنّ التحالف الذي سبق أنْ أعلنه مقتدى الصدر مع هادي العامري، زعيم قائمة «الفتح»، قبل أنْ يتنصل منه الطرفان، كان بضغط مباشر من قاسم سليماني، بعد إعلان النتائج الأولية للانتخابات في مايو/أيار 2018.
يتلخص المشهد السياسي ومجمل حراك القوائم الشيعية الفائزة لتشكيل الكتلة النيابية الأكبر في أجواء انقسام سياسي حادٍّ بين فريقين؛ فريق يحاول تشكيل حكومة جديدة بعيدة عن التأثير والنفوذ الإيراني، خلافاً لكلّ الحكومات السابقة بعد غزو العراق عام 2003، وفريق آخر يحاول إنشاء ائتلاف شيعي واسع حليف لإيران.
من المهم للعراق الخروج بعيداً عن دائرة التنافس الإيراني – الأميركي في العراق، وتشكيل حكومة قوية بعيدة عن الصراع بين الطرفين؛ للخروج من محاولات الوكلاء المحليين لجذب باقي القوائم واستقطابها؛ لتكون أداة من أدوات النفوذ الخارجي في العراق.
تراجع القوائم التي ترغب الولايات المتحدة في أنْ تكون البديل
وتخشى الولايات المتحدة من السيطرة الإيرانية الكاملة على الحكومة الجديدة، مع مؤشراتٍ واضحة على تراجع القوائم التي ترغب الولايات المتحدة في أنْ تكون بديلاً متاحاً حتى وإنْ لم يكن موافقاً بشكلٍ تام لتوجهاتها.
لكنّه الخيار الأقل ضرراً على مصالحها من وصول تحالف قائمة «الفتح»، و«ائتلاف دولة القانون» إلى السلطة.
لا تعوّل الولايات المتحدة كثيراً على إمكانيات العرب السُنّة والأكراد في معادلة تشكيل الحكومة وإمكانيات التغيير، بعيداً عن الارتماء الكامل في دائرة النفوذ الإيراني.
وتحاول الولايات المتحدة أن تجعل منهما أصواتاً داعمة لترجيح كفّة التحالفات البعيدة عن إيران.
ويمكن القول إنّ الولايات المتحدة فشلت خلال السنوات الأربع الأخيرة من حكومة حيدر العبادي، في بناء أسس متينة لتحالفاتٍ عميقة مع كتلٍ سياسيةٍ من مختلف مكونات المجتمع العراقي، قادرة على حسم نتائج الانتخابات لصالحها في مواجهة القوائم الحليفة لإيران، التي نجحت في الإعداد بشكلٍ جيد لمثل هذه المواجهة.
ويواصل مبعوث الرئيس الأميركي إلى التحالف الدولي، بريت ماكغورك، مباحثاته مع الكتل السياسية لحشد الدعم لرئيس الوزراء المنتهية ولايته حيدر العبادي، في لقاءاتٍ عقدها في بغداد وأربيل.
ويأمل المبعوث في تشكيل حكومة عراقية جديدة تلتزم بالعقوبات الأميركية على إيران، وتتمسك ببقاء القوات الأميركية لمواجهة التصريحات التي يطلقها قياديون، حلفاء لإيران، من قادة فصائل الحشد الشعبي، وتطالب بمغادرة القوات الأميركية، وقيادات أخرى صرّحت باستهداف تلك القوات.
ماذا يقول الواقع؟
لكنّ التحالف الأقرب للواقع يشيرُ إلى احتمالات تشكيل كتلة نيابية حليفة لإيران هي الأكثر عدداً من المقاعد التي تؤهلها دستورياً لتسمية رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة الجديدة.
ومن المرجح أنْ تضم الكتلة النيابية المنتظر الإعلان عنها في أول جلسة لمجلس النواب الجديد، حيث مقرر لها أن تعقد، اليوم الإثنين، قوائم الفتح (48 مقعداً) ودولة القانون (27 مقعداً)، وأكثر من 25 مقعداً من قائمة النصر سبق أنْ أعلنوا انسحابهم من القائمة التي يرأسها حيدر العبادي، تضم نواب كتلة العطاء التي يرأسها رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، وكذلك نواب آخرون من حزب الفضيلة والحزب الإسلامي العراقي (سُنّي) ومستقلون.
ومن المستبعد وصول أيّ كتلة سياسية أو ترشيح أيّ شخصية لرئاسة السلطة التنفيذية في العراق من دون موافقة إيرانية مسبقة؛ نظراً لنفوذ طهران الطاغي في معظم مؤسسات القرار العراقي السياسي والأمني.
إيران تريد حكومة منسجمة مع سياساتها
وتهتم إيران ببناء حكومة جديدة منسجمة مع سياساتها بشكلٍ أكبر، بعد إعادة فرض العقوبات الأميركية عليها وحاجتها للدولار الأميركي، ولممراتٍ برية عبر العراق لتسويق منتجاتها النفطية وباقي صادراتها، للتخفيف من وطأة العقوبات على الاقتصاد الإيراني، الذي يشهد تراجعاً كبيراً أدى إلى احتجاجاتٍ شعبية مستمرة منذ الأسبوع الأخير من العام الماضي 2017.
قد تحاول إيران، في حال فشلت في وصول القوى المحلية الحليفة لها لتشكيل الكتلة النيابية الأكبر في مجلس النواب، أنْ تكون أكثر انسجاماً على مضضٍ مع تحالف قائمة «سائرون» وتحقيق بعض أهدافها في الإفلات عن طريق العراق من العقوبات الأميركية.
في كل الأحوال، لا يمكن القفز على واقع النفوذ الإيراني المتنامي في العراق منذ عام 2003.
وبعيداً عن التحالف الذي سيفوز بتشكيل الحكومة وقربه أو بُعده عن التأثير الإيراني، فإن تأثير إيران في القرار العراقي السياسي والأمني سيظل قائماً، طالما ظلت الكتل السياسية الحليفة أو القريبة من السياسات الإيرانية في مراكز صنع القرار العراقي، بما فيها قائمة «سائرون» التي تحاول الموازنة بين مصالح إيران والولايات المتحدة، والبقاء على مسافة واحدة من الدولتين، دون إلحاق أيّ ضرر بمصالحهما في العراق.
مواضيع: