احتضن فندق بارون العريق منذ نيف وقرن من الزمن قادة ورؤساء وملوك عرب من بلاد الشرق والغرب، وكتاب وشخصيات من الأبرز عالميا في القرن الماضي، عاصر الحربين العالميتين وكان مقرا لأبرز قادتهما العسكريين ومخططاتهم، أغلق قسرا خلال السنوات الماضية تحت وطأة قذائف الإرهابيين، ولكنه ظل شامخا، وها هو اليوم يستعيد ألقه ليعود كما كان على دوام ذاكرة حية للشعب السوري.
الشجرة الباسقة اليوم في الحديقة الخلفية لفندق "بارون" تعطي ما يكفي من الظل لمن تبقى من موظفيه بعد أن أنهكهم العمل بإعادة إصلاح وصيانة الفندق الأشهر بمدينتهم، يرتشفون القهوة في فترة استراحة العمل، ويشعرون معها بلذة خاصة وطعم مختلف ليس لأنها من أجود أنواع (البن) بل لأنهم يعلمون عظمة هذه الشرفة وقيمتها فمنها أطلّ (قادة وزعماء وملوك) والقوا خطبهم التاريخية معلنين تحولات جذرية في البلاد.
تستمر عمليات صيانة فندق "بارون" المتوضّع وسط مدينة حلب بعد انتهاء الحرب الإرهابية التي عانت منها حلبلسنوات، ومعها يجتهد عمال الصيانة لإعادة رونقه وتألقه من جديد بإمكانيات بسيطة، متواضعة بعد أن أغلق أبوابه طوال السنوات المنصرمة، حيث أُغلق الفندق كغيره من فنادق المدينة، وتوقف معها تدفق السياح لمدينة تشتهر بأماكن سياحية، وأثرية وبقلعة تعتبر القلعة الأكبر في العالم، ومع تعافي المدينة وعودتها تدريجياً للحياة الطبيعية يلتقط "بارون" الفندق أنفاسه من جديد.
تقول السيدة "روبينا مظلوميان" المشرفة على الفندق "نعمل لإعادة الفندق كما كان، لكن أعمال الصيانة كثيرة وبحاجة لإعادة التأهيل"، وخلال أسابيع سيستكمل الفندق صيانته فيما المالكون أمامهم خيارات عديدة إما الاستمرار بوضع الفندق للاستثمار أو عرضه للبيع".
وتتحدث السيدة مظلوميان عن تاريخ الفندق وتقول: أنشأه الأخوان مظلوميان (أونيك و أرمين) عام 1911م، في ذلك العام حضرت الفرقة العسكرية النمساوية وأحيت حفل افتتاحه فيما استخدمت فوانيس (اللكس) للإضاءة في هذا الفندق في وقت لم تكن فيه الكهرباء قد وصلت إلى المدينة، وقد اكتسب شارع بارون اسمه من هذا الفندق، وكان يسمى قبل الاستقلال بشارع (غورو)، وأعيدت تسميته قبل منتصف القرن الماضي بشارع بارون وهو الشارع الأكثر نظافة، وجمالاً بالمدينة، "في ذلك الحين حيث يتركز فيه النشاط التجاري والسياحي المميز وتكثر فيه المقاهي ودور السينما حتى أن البعض شبهوه بشارع (الشانزيلزيه) بباريس".
يقول أحد أصحاب المحال التجارية "المخضرمة" في هذا الشارع: إنه في تلك الفترة كانت رائحة العطور تعبق من هذا الشارع لكثرة الشخصيات المرموقة من زوار يعتبرون من الطبقة الأرستقراطية التي كانت تؤمه وتؤم فندقه من (باشوات، أغوات، أمراء، وغيرهم) من العائلات المعروفة داخل المدينة وخارجها.
كان شارع بارون في السابق منطقة تعج بالحركة والفخامة في مدينة تعد بوابة الشرق كملتقى للطرق والسياح القادمين من الشرق والغرب وخاصة من أوروبا، من ملوك وملكات ورؤساء وأمراء ونبلاء، وكان فندق بارون الأنسب للكثير من أسر العائلات الحاكمة في أوروبا إضافةً للباشاوات وتجار الحرير والأثرياء، وكان من نزلاء الفندق أيضا قادة جيوش الألمان والأتراك في الحرب العالمية الأولى ثم مقرا لوضع الخطط من قبل جنرالات الحلفاء "البريطانيين والفرنسيين" في الحرب العالمية الثانية.
استقبل الفندق خلال تاريخه القديم العديد من المشاهير، ففندق "بارون" في "حلب" من الفنادق النادرة التي لديها تقاليد خاصة، وقد حرص أصحاب الفندق أيضاً على إبقاء الغرف التي أقام بها المشاهير كما هي بأثاثها ومقتنياتها، كما لا تزال صور بعض المشاهير معلقة في الغرف التي اقاموا بها حتى اليوم.
من شرفة الغرفة 215 ألقى الملك فيصل خطاب الاستقلال في حلب بعد الثورة العربية الكبرى، وأقام فيه الرئيس جمال عبد الناصر عند زيارته حلب بعد أيام الوحدة بين سوريا ومصر والقى من شرفته خطابا بجماهير حلب التي احتشدت أمام الفندق رافعة أعلام الوحدة، كما أقام به الرئيس حافظ الأسد عندما كان وزيراً للدفاع، ونزل في الفندق زعيم الجمهورية الفرنسية الحرة الجنرال شارل ديغول، وألقى خطبة من على شرفة الفندق، ومن النزلاء "الرؤساء" أيضاً مختار ولـــد دادا" رئـيـــس جمهورية موريتانيا، والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مؤسس دولة الإمارات، والرئيس التونسي الحبيب بو رقيبة، والرئيس السوري الأسبق شكري القوتلي.
ومن السياسيين والعسكريين الذين نزلوا في الفندق مصطفى كمال أتاتورك والجنرال الألماني ليمان فون ساندرز، وفارس الخوري وإبراهيم هنانو وغيرهم الكثير.
ويطلق على الغرفة رقم 202 في الفندق اسم "لورنس العرب" الجاسوس البريطاني الشهير الذي أقام في هذا الفندق فترة طويلة، ولا تزال الغرفة من الداخل محتفظة بأثاثها وصورة له معلقة على جدرانها.
أما الغرفشة الأشهر في الفندق فهي الغرفة 213 التي يطلق عليها "غرفة أغاثا كريستي" نسبة للكاتبة العالمية الشهيرة التي أقامت مع زوجها عالم ومنقب الآثار المستشرق "متر ماكس فالوين"، حيث أنجزت الكاتبة البوليسية الشهيرة في هذه الغرفة أهم فصول روايتها (جريمة في قطار الشرق السريع) عندما كان زوجها عالم الآثار ينقب عن الآثار في شمال وشرق سوريا.
كما أقام في الفندق أول رائد فضاء في العالم، الروسي "يوري غاغارين" وأقامت فيه أيضاً أول رائدة الفضاء في العالم الروسية "فالنتينا تيلشكوفا".
مواضيع: