عمارة الأطفال والبيئة الحضرية 3

  01 سبتمبر 2017    قرأ 717
عمارة الأطفال والبيئة الحضرية 3
يمكن ملاحظة أن الفراغ المعماري والحضري معقد بدرجة كبيرة ومرتبط بالقيم الاجتماعية والثقافية. ولا يختلف على نطاق أوسع بين مدن من ثقافات مختلفة فحسب، ولكن أيضا على المستوى الصغير جدا من نفس المدينة أو حتى الحي أو المبنى. الاختلافات وتصميم الفراغ يمكن أن تؤثر بشكل كبير على سلوك الطفل داخل مساحة معينة. فالارتفاع والعرض وحدود المساحة يمكن جميعا ان تقترح التصرف التالي المحتمل للطفل. وهي تحدد الاحتمالات التي يمكن للطفل اتخاذها للتفاعل مع طفل آخر أو غيره. ليس هذا الفراغ معقدا فحسب، بل هو أيضا دينامي جسديا ويميل إلى التغيير. ما هو هادئ وفارغ يمكن أن يصبح مشغولا ومزدحما والعكس بالعكس. ومع التغيير المادي يأتي التغيير الاجتماعي أيضا، ما هو الآن آمن يمكن أن يصبح خلاف ذلك الذي يتطلب وجود البالغين مع لأطفال لرعايتهم وسلامتهم.
إن الاهتمام المتزايد بالأطفال والمجتمع كأبحاث أساسية كان مساويا للاهتمام بالعلاقات البيئية للأطفال، والذي كان مرتبطا بتخصصات أخرى مثل الهندسة المعمارية ودراسات الإسكان والتخطيط الحضري والإقليمي والجغرافيا. ومع هذا الاهتمام متعدد التخصصات وتركيز الدراسات، هناك مستويان ملحوظان: الأول يتعلق بالمدينة، والتي ينظر إليها على أنها الخلفية التي يعيش بها الأطفال، والثاني كان حول تطوير فهم أفضل لكيفية استخدام الأطفال للفراغ.
وبالنسبة للأطفال، فإن الفراغ بجميع أشكاله، سواء أكان خاصا أم عاما، فهو جزء أساسي من عالمهم. ومع ذلك، فإن التصاميم التقليدية قد تجاهلت الأطفال، واعتبرت استخدامهم له أمرا مفروغا منه. ويرى المفكرون أن الأطفال، مثلهم مثل البالغين، يعكسون التنوع اللانهائي للحياة والثقافة والسن والعرق والجنس والخبرة والطابع ومستوى القدرة والحب والكره، ويتأثرون بشكل مختلف بالبيئات وعمليات التغير البيئي. ومع ذلك، فإن العلاقة بين الأطفال والفراغ كانت محور بعض المخاوف، حيث تجد أن البعض يجادل بأن أطفال المدينة أصبحوا غرباء عن العالم الطبيعي. ومن ناحية صحية يثير الأطباء مخاوف وقلقا متعلقا بالحركة وبأن انخفاض الحركة قد أسهم في زيادة مشاكل السمنة والسكري والأمراض المزمنة الأخرى. وتعزى أسباب ذلك، إلى إبعاد الأطفال عن الحيز العام، والشارع، وعن مخاوف وقلق متعلق بسلامة الأطفال من أفراد المجتمع الآخرين.
البيت: الفراغ المصمم اجتماعيا للأطفال
لقد تم التحقيق والبحث في مفهوم البيت بالعديد من الطرق المختلفة، لفهم أفضل للمستويات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والنفسية وغيرها. وقد شكل كل باحث مفهوم وفكرة البيت كل على طريقته وضمن منظور بحثه. وبادئ ذي بدء، فإن الاستعراض التالي لما أسهم المؤلفون في إجراء بحوث لفهم أفضل لمفهوم البيت يسهم من الناحية الاجتماعية والسلوكية والنفسية وغيرها، في إلقاء الضوء على هذا الفراغ الأساسي الذي يقضي فيه الأطفال وقتا أطول من أي فراغ آخر في المدينة. وحتى لو كانوا يذهبون إلى المدرسة أو الرعاية النهارية ولهم حياة اجتماعية نشطة مع العائلة أو الأصدقاء، فإنهم لا يزالون يعودون إلى بيوت أسرهم. ومع ذلك، فإن دور ووظيفة وتصميم واستخدام بيت الأسرة لم تدرس إلا قليلا، وهذا يبدو غير معقول بالنظر لأهمية البيت الاجتماعية في تنشئة الطفل. وفيما يلي استعراض مختصر لبعض ما كتب عن البيت، فيما يتعلق بالفراغ والمجتمع.
بداية نرى أن بول اوليفر قد نحى في دراسة البيت منهجا مختلفا. حيث يدرس أوليفر في بحثه “المساكن: البيت في جميع أنحاء العالم” في عام 1987 البيوت باعتبارها مباني متميزة قائمة بذاتها. وهو يحقق في البيوت من منظور اجتماعي كنشاط للعيش، وكمكان أو هيكل يحاول فهم أشكاله على أنها قطعة أثرية بدائية غير مهنية. ومع ذلك، يناقش أوليفر فكرة العمارة البدائية بأنها “الأكثر غرابة، وغير دقيقة أيضا، مما يعني إما أصل بدائي للعمارة التي تمثلها المباني، أو الشعوب البدائية التي تبنيها؛ فالعمارة التقليدية أفضل، لأنها تعترف بالميراث من الماضي. والمصطلح الذي حظي بقبول واسع هو العمارة المحلية مع المقارنة اللغوية مع لغة الناس العاديين: المعادل الشعبي للعمارة الرسمية، وقد تكون العمارة الأصلية مصطلحا أكثر دقة، وبالتأكيد أقل استعارة على الرغم من أنه لا يمكن تطبيقها بشكل فعال على الأشكال المستوردة ومباني الشعوب غير الأصلية في المنطقة”. في أول دراسة له في الحالات الدراسية عبر ثقافات مختلفة، يقول أوليفر إنها تشير إلى “سجل من الاستجابة لتغيير نمط الحياة والمجتمعات في التغيير. ووفقا لأوليفر، “هناك العديد من العوامل التي تؤثر على طبيعة المساكن في جميع أنحاء العالم، مثل توافر مواد معينة، أو اختلاف أنواع المناخ والارتفاع والبيئة التي يعيش فيها الناس، لقد اخترت التركيز على مبادئ معينة، سواء البيئية أو الثقافية، التي شكلت مجموعة متنوعة من أنواع المساكن، فإنها تنطوي على الموارد المادية، وأشكال المساكن، والتكنولوجيات والعمليات التي يتم بناؤها، والاعتبارات المناخية والبيئية؛ طريقة تنظيم الفراغ واستخدامه داخل المسكن لتلبية متطلبات الحياة اليومية “. ومع ذلك، على الرغم من تحقيقه في عينة عبر الثقافات من البيوت، فإن دراسة أوليفر لم توفر إجراء منهجيا حول كيفية التحقيق في الموضوعات المكانية الكامنة التي قد تعكس العادات الثقافية أو أنماط الحياة.
في دراسة أخرى شهيرة حول البيت يشتهر رابوبورت بالدراسات الاجتماعية والثقافية الرائدة حول البيت، وهو يعتبر أن شكل البيت يحدده بشكل كبير الثقافة التي ينتمي لها، في حين أن العوامل الأخرى التي يعتبرها الآخرون محددات، فهو يعتبرها مجرد معدّلات أو تحويرات لأشكال البناء. يكتب رابوبورت: “فرضي الأساسي، هو أن شكل البيت ليس مجرد نتيجة لقوى حسية أو أي عامل سببي واحد، بل هو نتيجة لمجموعة كاملة من العوامل الاجتماعية والثقافية التي ينظر إليها بأوسع عباراتها. سأطلق على القوى الاجتماعية والثقافية “الأولية”، والأخرى “الثانوية” أو معدّلات”. وكان اهتمامه الرئيسي في دراسته هو المباني والمستوطنات البدائية والمناخية من أجل فهم القوى التي تشكل هذه المساكن. وتحاول دراسة رابوبورت النظر في تنوع أنواع البيوت وأشكالها والقوى التي تؤثر عليها، وإلى حد ما إيجاد تأثيرات ضمنية وليس صريحة.
ويتناول رابوبورت الفراغ مع الإشارة إلى علم النفس والسلوك. ويجادل بأن “المساحة المتصورة يمكن أن ينظر إليها على أنها البناء الكلي المعرفي القائم على معايير نفسية، واحدة منها هي الفراغ الذاتي، جانب آخر من الفراغ النفسي هو الفراغ التجريبي أو الحسي. هذا يمكن أن يكون بصريا، سمعيا، شميا، حراريا، جماليا، أو يعتمد على اللمس، والإجهاد على وسائط حسية محددة، وبالتالي على المساحات الحسية، وتختلف من ثقافة إلى أخرى “. وعلاوة على ذلك، يشير رابوبورت إلى أن الفراغ هو عنصر أساسي في فهم القيم الثقافية الموروثة لأنه يعرف مفاهيم مثل “الفراغ” و “الصفات المكانية”، التي يرى أنها ذات صلة ثقافية وتعتمد على القيم وأساليب الحياة. ويشير أيضا إلى أن عينة تتراوح بين الوقت وعابرة الثقافات ضرورية لفهم شامل لهذه المفاهيم.
في دراسة مستوطنات “بويبلو”، وهو مصطلح إسباني يستخدم لمجموعة كبيرة ومتنوعة من سكان الجرف القديم والحديث، يعزو رابوبورت تشكيل هذه المجتمعات البدائية إلى التكامل بين الدين والرمزية والأساطير، والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بتنظيم اجتماعي والحياة اليومية. ويشير رابوبورت أيضا إلى أن “حتى الفهم السطحي لهذه الجوانب سيساعد إلى حد كبير على فهم البويبلو كشكل”. يقدم رابوبورت أيضا الطقوس والقيم الروحية كمحددات مترابطة في نتائج الترتيبات المادية للبيئة المبنية لبويبلو. ومع ذلك، مثل عمل أوليفر، فإن دراسات رابوبورت توفر الإطار النظري لشرح “صياغة البيت ككائن ثقافي، ولكن لا توفر وسيلة لاسترداد هذه القيم على انها جزءا لا يتجزأ من التخطيط المادي من أجل الكشف عن الاختلافات بين الثقافات أو التحولات داخل نفس الثقافة عبر المنطقة أو الوقت.
دراسة شيروود وآخرين على منازل الفناء في لوس انجليس تكشف عن أكثر من مجرد مسح بصري لحالات دراسية معينة. وتوفر بيانات بسيطة عن البيوت واستخدامات الفراغات، سواء كانت خاصة أو عامة، على الرغم من إدخال دقيق لهذه الحالات الدراسية. وشملت الدراسة أفكارا حول وظيفة الفناء واستخدام العناصر والنباتات والشكل. الجانب الأكثر مخيبا للآمال في الدراسة حول الفناء هو أنه يتجاهل أي علاقة بين الفناء والجوانب الاجتماعية والثقافية أو التأثيرات عبر الثقافات من إسبانيا والبحر الأبيض المتوسط وهي مبحث الدراسة.
دراسة فريدمان عن الترتيب المادي للمنزل فيما يتعلق بالإطار الاجتماعي، تسلط الضوء على التأثيرات الأنثوية على البيت في دراستها “المرأة وصنع البيت الحديث” وتلفت فريدمان الانتباه إلى تأثير بعض النساء العملاء على رواد الهندسة المعمارية في القرن التاسع عشر مثل فرانك لويد رايت، ولو كوربوزييه. وعلاوة على ذلك، فإن الدراسة تحاول قراءة العناصر المكانية الوظيفية للبيت من هذا المنظور. تكتب فريدمان: “جوهر الخدمة في البيت يصبح مخططا للمنزل كآلة لاستخراج النظام من البيئة: المطبخ والحمامات المترابطة تقف بشكل منطقي، والعلاقة النفعية مع بعضها البعض. والحقيقة أن كومة التربة السوداء ليست سوى اتصال بين مربع الزجاج والأرض وهذا يضفي مصداقية لهذه النظرة للبيت. وعلاوة على ذلك، في حين أن الموقد، والذي يستخدم في حد ذاته لاستخراج الطاقة (في شكل حرارة) من “المركبات العضوية” يوضع في جوهر البيت، بل هو أيضا وظيفية بحتة ومعالجة رسمية، ولذلك فإن إسقاطه خارج الصندوق الزجاجي كمدخنة، وبالتالي قيمته كتعبير رمزي أو صوري، يتم قمعه تماما”. واللافت في هذه الدراسة محاولة قراءة البيت من ناحية فلسفية ورمزية والتي تتناول عناصر وظيفية في الفراغ بطريقة جديدة، وتقرأ ما وراء الترتيبات المادية فيما يتعلق بالتخطيط كله وبخاصة دور المرأة في ترتيب البنية الهيكلية للبيت ومركزية عناصر الخدمات الوظيفية فيه.
وقد استكشفت دراسات أخرى الجوانب النفسية للبيت، ففي دراسته، يقترب أوليفر مارك من هذه المسألة من وجهة نظر أخرى، كما انه يحاول تفسير البيت كتعبير عن ‘الذات”‘. ويحدد علامات رمزية وبعض الأشكال الهندسية التي تجعل النفس البشرية، “منظمة وفقا لخطة عامة تكتشف في سياق التخصصات الروحية، والتي هي مصممة لاعادتها الى الوحدة التي يمكن العثور عليها في وسط “النفس”. في التبت تعبر التجارب الروحية للعودة إلى الوحدانية التصورية التي تنطوي على “مركز”. وتتنوع التركيبات فقط بالتفاصيل، مع درجة أكبر أو أقل وفقا للحالة الروحية بينما يسافر المتأمل في الطريق إلى الوحدة. في بيوت التبت تم إثراء البنية الأساسية للماندالا من خلال العبادة التقليدية، التي تتميز بالسمات الرمزية، وكذلك مع عناصر من البيت”. ووفقا لمارك، واستنادا إلى رموز يونغ في التحول، فإن الخطة الهيكلية النفسية البشرية متحدة إلى حد ما، ونتكون من ثلاثة نماذج أساسية: الدائرة والمربع والتقاطع. لذلك، ففي محاولة مارك الكشف عن الأشكال داخل اللاوعي للعقل إلى أشكال مشتركة بين الثقافات بغض النظر عن تأثير الأيديولوجية، يقترح أن هذه الأشكال الأساسية الثلاثة سادت في ثقافات مختلفة، بما في ذلك كوخ الإجلو، اليورت، والبيت بأشكاله الأساسية المختلفة، والخيمة، والمسجد، والكنيسة، والهرم.
واللافت في هذه الدراسات أنها تحاول دراسة البيت كحاضنة اجتماعية ونفسية ذات تأثير سلوكي واجتماعي ورمزي في تنشئة القاطنين، وبحث علاقة التركيبة البنيوية بالقرارات المعيشية التي يتخذها القاطنون بالنسبة لبنية وتركيبة البيت الحسية والجمالية – وهي متعلقات مهمة لها تأثير مباشر على القاطنين وبخاصة الأطفال. والأهم انها تحاول تسليط الضوء على الجانب الانثوي، للمرأة التي تشارك الرجل في اتخاذ القرارات الوظيفية التصميمية لدى بناء البيت، في التأثير على القرارات التصميمية التي يتخذها المعماريون في تشكيل البنية التركيبية للبيت والذي هو مملكة الاسرة والمرأة خصوصا والتي لها دور مباشر في تنشئة الأطفال داخل البيت. وفضلا عن ذلك فإن دلالات الشكل والرمزية الإيحائية في البيت لها دور مهم في البعد النفسي. وللحديث بقية

مواضيع: طفل،#عمارة،#  


الأخبار الأخيرة