ما الذي فعلناه؟

  01 يوليو 2017    قرأ 1070
ما الذي فعلناه؟
مؤلف هذا الكتاب اللافت، الذي يحتل الصدارة في واجهة المكتبات الأميركية منذ صدوره في الأول من شهر نوفمبر/تشرين الثني الجاري، هو الصحفي المخضرم والحائز على جائزة بوليتزر العريقة للصحافة، ديفيد وود.
يمثل هذا الكتاب صرخة حقيقية لوجع دفين ولجرح معنوي لا يرى بالعين المجردة، لكن شفاءه قد يكون مستحيلا، فلا دماء تنزف منه ولا هو يمزق عضوا من الجسد بعينه، بل هو جرح يضرب عميقا في النفس، وقد يكون أعمق أثرا ووجعا، وغير قابل للتضميد. هذا الجرح النفسي هو السمة الخاصة التي طبعت حالة الجنود الأميركيين الذين خاضوا حروب الولايات المتحدة ما وراء البحار في القرن الحادي والعشرين.

إلا أن معظم الأميركيين يجهلون طبيعة المرض الذي يدعى "اضطرابات ما بعد الصدمة" والذي يتم اختصار تسميته بالحروف "بي تي إس دي"، كما يجهلون أيضا للأسف الشديد مدى انتشاره بين أفراد الجنود وأفراد القوات المسلحة التي شاركت في الحروب الأميركية الأخيرة في غير مكان من العالم وفي مناطق ساخنة جدا تنتشر فيها التنظيمات الإرهابية ومظاهر العنف الشديد.
كما يميز هذا الكتاب الذي يحمل عنوان "ما الذي فعلناه؟" أن كاتبه العريق في الإعلام الحربي ديفيد وود، استطاع رسم صورة دقيقة التفاصيل للحروب في القرن الحادي والعشرين والتي يدعوها بالحروب المعاصرة، ويتابع تأثيرها على كل العالقين بين حجري رحاها.

دوامة نزاعات القرن الجديد
في هذا السرد النابض بآلام مستترة لكنها عميقة ومدمرة في معظم الأحيان، ينطلق وود في توصيفه لحالة ما بعد الحروب الأميركية المعاصرة ليثير أبعاد هذه التجربة المريرة على المستويين الأخلاقي والإنساني في آن. ويقع في صلب بحثه كما يقول "تحديد مساحة الإصابة المعنوية والنفسية والأخلاقية لأولئك الذين أرسلناهم إلى حروب ما وراء البحار جلها مجهول الأهداف والهوية، مخالفين بذلك أبسط قيمنا في ضرورة التفريق بين الصواب والخطأ من أجل ضمان مسار أخلاقي لأدائنا الذي أصبحت تحكمه شروط غير أخلاقية في دوامة النزاعات المعاصرة".

يرسم الكاتب مشاهد حقيقية للمحاربين العائدين من أرض المعركة في أفغانستان والعراق، كما يسرد شهادات طبية للمعالجين النفسيين والخبراء في حالات الصدمات النفسية التي يخضع لها المقاتلون العائدون من مواقع القتال، تلك الحالات التي عالجوها لجنود مروا بهذه التجربة القاسية، ومدى انعكاسها على صحتهم العقلية، وكذا على تواصلهم مع عائلاتهم من جهة ومع مجتمعهم إثر عودتهم من جهة أخرى. وهذه المشاهد معززة بالتجربة الشخصية للكاتب ديفيد وود بسبب عمله الميداني كمراسل حربي في أكثر من موقع قتالي شارك فيه جنود أميركيون شباب وشهدوا أهوالا وعنفا قد يكون أحيانا من البشاعة بحيث يصعب تصويره.
شكل هذا الكتاب إطارا يحيط بصورة المحاربين الذين تطوعوا من باب العمل الوطني النبيل في الخدمة العسكرية في صفوف القوات المسلحة الأميركية، وما يحمله هذا القرار من كبرياء وفخر واندفاع للمساهمة في الخدمة الوطنية للبلاد. ويرصد ما انتهوا إليه حال عودتهم من تلك الحروب العبثية بجروح ضميرية ونفسية لا تكاد تجد لها شفاء مهما طال الزمن وغلا العلاج، تاركة ندوبا لا تزول على روح أولئك الشباب الذين عادوا إلى بلادهم محملين بأوزار تلك الحروب التي حصدت من المدنيين الأبرياء بقدر ما حصت من المقاتلين.

ما أراده الكاتب وود هو إطلاق صرخة عالية بصوت كل هؤلاء الجنود الأميركيين من خلال متابعة قصصهم الشخصية والعامة منذ أن وضعوا أقدامهم في أرض المعارك وقابلوا وجها لوجه أشكالا من الموت والدمار والفناء الإنساني لم تتحملها عقولهم الشابة في أغلب الأحيان كونهم كانوا يشاركون -عن قصد أو غير قصد- بهذا القتل المجاني الذي كان ومازال وقوده البشر قبل الحجر، وبالتالي يشير وود إلى المعضلة الأساس وهي في القرار الذي يتخذه السياسيون والعسكريون في إرسال الجنود إلى معارك مجهولة النهايات.
في تجاوز المحرم الإنساني
تمكن ديفيد وود الذي أنجز فترة طويلة من عمله الصحفي كمراسل حربي ميداني من نقلنا عبر صفحات هذا الكتاب من عناوين الصحافة السطحية حين ترحب بعودة الجنود من المعارك متحدثة حصرا عن بطولاتهم وتضحياتهم، إلى عمق الوزر الإنساني والأخلاقي الذي يحمله أولئك الجنود العائدون إلى الولايات المتحدة، ولا سيما حين يواجهون الحقيقة في أنهم تجاوزوا المحرمات البشرية في قتل أشخاص آخرين غالبا ما كانوا أبرياء ولا ناقة لهم ولا جمل في أسباب أو نتائج هذه الحروب المسعورة.
ورغم أن وود قد أدرج في كتابه القيم هذا العديد من النزاعات التي شهدتها البشرية في حروبها الكبرى، ومحصلاتها المدمرة، وعلى رأسها اكتشاف الجنود الأميركيين للمدنيين الناجين في معسكرات الاعتقال النازية في الحرب العالمية الثانية، وما واجهوا من أهوال الحرب والاعتقال والتعذيب. إلا أن الصورة الأبشع لحروب القرن الحادي والعشرين يجدها وود في قصص أولئك المحاربين الذي تم نشرهم مرات عديدة في أفغانستان.
ويشير وود إلى أن المدربين الذين أشرفوا على تدريب المقاتلين على ما يمكن أن يواجهوه في هذا النوع من الحروب وكيفية التعامل مع ظروفها القاسية والعنيفة، لم يتمكنوا أن يتخيلوا حجم العنف الذي اندلع خلال تلك الحروب من أجل أن يحصنوا جنودهم من أهوالها وتأثيرها على صحتهم العقلية والنفسية على المدى الطويل.

كما يكشف وود كيف فشل بعض هؤلاء الجنود في التعافي من صدمات ما بعد الحرب، وكيف نجح آخرون في تخطي هذه الحالة من الإعياء النفسي والجسدي بمساعدة الخبراء والأطباء الذين أشرفوا على علاجهم حين عودتهم وتمكنوا من شفاء تلك الجروح غير المرئية التي تخدش أرواحهم وتقلق منامهم لأنهم تعرضوا لقتل إنسان آخر، سواء كان عن عمد أو غير عمد، تجنيا أم دفاعا عن النفس.

وأخيرا لا ينسى وود أن يغطي الحالات التي تعرضت للاعتداء الجنسي من قبل رفاقها في السلاح وزملائها في العمل، ودور رجال الدين في العلاج الروحي لهذه الحالات المثقلة بجروح قد لا تلتئم أبدا!

كتب كبير المراسلين لشؤون الأمن القومي في قناة سي بي أس الأميركية ديفيد مارتن، معلقا على هذا الكتاب: "عندما أقرأ كتاب ديفيد وود أسأل نفسي في كل مرة أقلب صفحاته لماذا لم أستطع تدوين تلك المشاهد كما فعل وود، وقد كانت أمام عيني تسرد ألما عميما لم نتمكن جميعا أن نراه بوضوح حتى نبهنا وود إليه"؟
AzVision.az

مواضيع:   أميركا   الحروبالأميركية  


الأخبار الأخيرة