رحلة إلى مهد التفاح في العالم

  06 ديسمبر 2018    قرأ 1368
رحلة إلى مهد التفاح في العالم

جادت غابات كازاخستان بثمار التفاح البري حين تعرف العالم الروسي نيكولاي فافيلوف عليها باعتبارها أصل ثمر التفاح في العالم بأسره. واليوم باتت الثمرة الأصلية مهددة بالانقراض.

ساد الشتاء غير آبه بقمم جبال تيان شان المعممة بالثلوج هامسا برياحه بين أشجار تعرت من زينة الربيع.

وقال أليكسي راسبوبوف، مرشد الرحلة: "الجو بارد"، مشيرا إلى درجة الحرارة بمقياس سيارته رباعية الدفع فيما هممنا بالصعود تاركين خلفنا ألماتي، ثاني مدن كازاخستان لتختفي وسط غيمة من الضباب.

 

وبعد أن سرنا نحو ساعتين باتجاه ممر طورغن تركنا السيارة وواصلنا الرحلة مترجلين، ولم يكن الطريق شاقا غير أن برودة الرياح كادت تفقدني الإحساس بأناملي وتحول دون تمكني من الحديث إلى المرشد الذي ظل يصطحب رحلات إلى المنطقة طيلة 30 عاما.

وحين سألته عما تغير خلال تلك الفترة، قال لي "المشهد تغير كثيرا" مذكرا بانقضاء الاتحاد السوفيتي وبارتفاع نسب التلوث وتراجع الثلوج، ولشدة ما اعترى المنطقة من تغير كادت غابات التفاح البري تختفي بعد أن غطت يوما سفوح تلك البقعة من الجبال.

وحين تعرف العالم الروسي نيكولاي فافيلوف لأول مرة على أشجار التفاح البري بالمنطقة باعتبارها أصل التفاح الشائع لدينا اليوم، وكان ذلك عام 1929، كانت المنطقة كثيفة بالغابات وكان نتاجها وافرا.

كتب فافيلوف عن زيارته إلى ألماتي، والتي كانت يومها عاصمة كازاخستان، قائلا: "تمتد غابات التفاح البري على السفوح حول المدينة من كل ناحية، ولاشك أن هذه البقعة الجميلة التي يراها الناظر هي أصل التفاح المستزرع".

اعتمد فافيلوف في استنتاجه على أن موطن نوع طبيعي ما يقع غالبا حيث التنوع الجيني الأكثر للنوع. ولاحقا أكد علم الوراثة الحديث ما توقعه من أن التفاح المستزرع في كل مكان بالعالم مرجعه إلى مدينة ألماتي.

تقول غيل فوك، عالمة بحوث النباتات بوزارة الزراعة الأمريكية: "لابد أن البشر نقلوا بذورا أو شتلات

من أشجار كاملة أو براعم منتقاة من غابات التفاح البري تلك واستزرعوها بمناطق أخرى. وربما أيضا تم تهجين أشجار برية من مناطق أخرى بتلك ومن ثم تواصلت عملية الانتقاء النوعي".

ويُعتقد أن التفاح انتقل عبر طريق الحرير ومن ثم حمله المستوطنون الأوروبيون إلى أمريكا الشمالية.

ورغم أن فافيلوف كان أول من رجح علميا ارتباط ألماتي بالتفاح إلا أنه لم يكن أول من لاحظ أثر التفاح بالمنطقة، فالمدينة حسبما أخبرني المرشد كانت تسمى قبلا ألما آتا، وتعني "أم التفاح"، مؤكدا لي أن الأشجار تحمل في موسمها أشكالا وأحجاما ومذاقات مختلفة من التفاح البري، ولكن أغلبه غير صالح للأكل.

ويبدو الزهو بالتفاح واضحا في مختلف مناطق المدينة عبر لافتات تحمل صور التفاح وتذيع ألماتي باعتبارها "مدينة الألف لون"، ولافتات تضفي لونا أحمر على الطرق السريعة، والزائر لمتحف كاستييف للفن، أكبر متاحف الفنون بكازخستان، يطالع لوحات زيتية للتفاح فضلا عن أعمال نحت معدنية. وفي الشوارع ترى جداريات التفاح على الأبنية فضلا عن نافورة حجرية ضخمة على شكل تفاحة بجبل كوك طوبي، أحد المعالم الرئيسية للمدينة. وفي طريقي إلى التلفريك الذي ينقل الزوار لقمته انتظرت لالتقاط صورة لسيارة فولغا سوفيتية صفراء مملوءة بالتفاح الصناعي كتب على لوحتها "أحب ألماتي"!

كما يكتظ "السوق الأخضر" للمدينة بالباعة والمتسوقين وسط صفوف التفاح المنظمة بعناية بمختلف الألوان والأشكال وسط تبادل العبارات باللغة الروسية المنتشرة هنا.

ويمكن وصف "السوق الأخضر" بأنه مسقط رأس مطبخ تلك البلاد بما يحويه من منتجات أساسية، ومنها لحم الخيل حيث أهمية الجياد التي لا تضاهيها أهمية في تاريخ شعب كازاخستان الذي عرف عبر العصور بالترحال، واليوم يعد لحم الخيل من الأطباق المتميزة. وهناك أيضا مأكولات كورية لانتشار كوريين من الشتات تم تهجيرهم عام 1937 لوسط آسيا من روسيا السوفيتية إبان حكم ستالين، وكانوا قد لجأوا إلى روسيا بعد سقوط أسرة تشو سون عام 1910. وهناك من المقبلات والمخللات ما لا يتخيله المرء وقد زينت جميعها بالأعشاب - وغيره من المكونات اللازمة للأطباق الرئيسية كطبق اللحم بالأرز المنتشر في وسط آسيا والمعروف باسم الـ"بلوف" وفي كازاخستان يضيفون إليه جانب لحم الضأن والجزر والبصل، التفاح!

ورغم الانتشار الملحوظ للتفاح في البلاد إلا أن التفاح البري الأصيل بات مهددا، إذ يحاصر العمران والأنشطة التجارية غاباته فضلا عن أعمال الرعي وقطع الغابات. وأخيرا جرى اتخاذ خطوات للحفاظ على سفوح التفاح البري بالمنطقة وتزعمت جهود المحافظة "مؤسسة الغذاء المتأن" الإيطالية.

ولا يعرف ما إذا كان فافيلوف قد توقع في حينه أن يهدد نشاط البشر غابات التفاح البري ولكنه كان بعيد النظر إذ جمع بذورا أصلية وأضافها إلى بذور فاكهة ونباتات وجذور بالآلاف أودعها أحد أول البنوك الوراثية في العالم في لينينغراد (سان بطرسبرغ الحالية).

وخلال حصار لينينغراد ما بين عامي 1941 و1944 أبى العديد من علماء النبات ممن عملوا في هذا البنك التهام البذور المخزونة فيه وماتوا جوعا، أما فافيلوف نفسه فقد مات جوعا أثناء اعتقاله بالمعسكرات السوفيتية بعد أن غضبت عليه السلطة آنذاك. لكن إرثه مازال حيا، فقد أطلق على البنك اسم "معهد فافيلوف لصناعة النباتات" والبنك هو المنشأة الوحيدة من نوعها في روسيا كلها.

ويقول إيغور لوسكوتوف، رئيس قسم الذرة والشعير والشوفان بالمعهد: "نعتمد على تصور فافيلوف ومنهجه في جمع وتصنيف المخزون لدينا والإبقاء عليه واستخدامه، حرصا على عدم فقد التنوع الجيني باعتبار ما نفعله مهم لا لروسيا وحدها بل للبشرية جمعاء".

وتوافقه فوك الرأي قائلة: "لابد من الحفاظ على الأنواع البرية في بيئاتها الأصلية، ومع ذلك فبنوك الجينات توسع أفق الوصول إلى الأنواع البرية وتعد ضمانا حال فقد الأنواع الطبيعية".

لكن الأمل معقود بنجاح جهود الحفاظ على غابات التفاح البري في ألماتي، المدينة التي تحمل بصمة فافيلوف وزملائه الشجعان ومن عاصروهم ممن ارتبط مصيرهم بتلك الثمرة، وهي بصمة لن أنساها كلما تناولت إحدى ثمار التفاح الشهية.

 


مواضيع:


الأخبار الأخيرة