الألم؛ لا يمكن إخفاؤه أبداً، يتجلى بأشكالٍ كبيرة صغيرة، متنامية متفاوتة، وأحياناً متشظية متناقضة، وفي أغلب الظروف وأخطرها يكون الألم منسجماً بحكم العادة العقلية، ولكن ما يثيره الفنان الكوبي جورجي ماييت، هو الوضوح الساحر لكيفية قبول الألم وتمريره على صفيح من رماد، يكاد يشتعل في كل لحظة يظهر فيه الوطن على هيئة شجرة خضراء، يصف فيها من منفاه في إسبانيا، كيف أن وطنه «كوبا» معه وفيه أينما ذهب وولى، كاقتلاع الجذر من التربة الندية، وبقائه معلقاً بين السماء والأرض. والدهشة في مجملها مرتبطة بالموقف السادي (بين وبين)، وقوة الألم تبرز في حيز «تعليق الشجرة» نفسها، عبر خيط متدلٍّ من سقف المعرض في مؤسسة فرجام في مركز دبي المالي العالمي. ورغم الرائحة المنبعثة من الجذور، والتي تهديك مدى النبض الحيّ فيها، حيث تكتشفها من خلال طراوة الجذور وألوانها الداكنة، إلا أن تساقط الأوراق الملونة، البهية، على الأرضية؛ بين ساق الشجرة وجذورها؛ يوحي بعمق مدى ما تسبب به الاقتلاع من التماس مدوٍّ للحزن الشديد، خاصة أن الفنان يبحث في ذاكرته بعد رحلة المنفى، بما يحقق اتصاله الوجودي والكوني، مع الفضاءات الفسيحة لمكانه هناك في هافانا، التي شهدت لحظة ولادته، وأهدته جّل تفاصيله الحدسية والحسية.
في اللحظة؛ التي تقع فيها عين المشاهد على الجذر، ورؤيته لأكوام الطين المتلاصقة من بقايا الأرض التي اقُتلعت منها الشجرة، تبدأ تشكلات المشهدية الروحية، بالانضمام إلى جوهر الفرجة البصرية، واكتشاف ما تضمره الذات، باندفاعات ذاكرة تكتنز شعوراً يُدير الألم بشكل بديع، وإدراكنا الفعلي له يتجلى من خلال التدرب على كيفية اكتشاف الذاكرة الشعورية، ومحاولة مراقبة وقبول ما تصنعه في اللحظة، من مواقف وأحداث وردات فعل قد تكون واعية في بعض الأزمنة، وغير واعية في الكثير من المواجهات والصراعات الداخلية للفرد. لذلك فإن رمزية الشجرة هنا، تمثل فهماً لجمالها وقدرتها على التغلب والتكيف، رغم كم الظروف والكوارث كأن يقوم أحدٌ باقتلاعها من جغرافيتها وزراعتها في مكان آخر.
من المثير هنا؛ تفسير التباين الفكري بين ما طرحه الفنان الكوبي جورجي ماييت، وما ذكره الروائي الكويتي سعود السنعوسي في روايته «ساق البامبو»، حول نبات البامبو، الذي يمكنه العيش في كل مكان، بمجرد قطع جزء منه، كما ترويها الشخصية الرئيسية في الرواية: «لو كنت مثل شجرة البامبو.. لا انتماء لها.. نقتطع جزءاً من ساقها.. نغرسه، بلا جذور، في أي أرض.. لا يلبث الساق طويلاً حتى تنبت له جذور جديدة.. تنمو من جديد.. في أرض جديدة.. بلا ماضٍ ، بلا ذاكرة.. لا يلتفت إلى اختلاف الناس حول تسميته.. كاوايان في الفلبين.. خيزران في الكويت.. أو بامبو في أماكن أخرى».
ما يعود بنا إلى مسألة الذاكرة، والحيز غير الواعي لدي البشر، خاصة أن الفكرة تُنتج من خلال الشعور، والعكس كذلك، أن الشعور يُنتج من خلال الفكرة، فهما يمثلان وحدة واحدة، وإمكانية فهمهما تنطلق من منهج حقيقي يتبناه الإنسان في مسألة التحول الداخلي ومحاولة الوصول إلى الوعي الصافي، فالأخير يتطلب تجاوزاً للذاكرة، من استخدامها لإحداث التجاوب الحسي العميق مع الحياة، إلى استثمار لحظي يشبه ما أقدم عليه الفنان جورجي ماييت، بتحويل الألم إلى عمل فني، يساهم في تكثيف مراحل قبول الألم وتجاوزه، أو الوحي بوجوده وسيطرته على الشعور الدفين بين البشر في معاناة علاقاتهم مع الأرض.
مواضيع:
جورجيماييت،#شجرةخضراء،#