الإنسان المهزوم.. وصناعة البطل الوهمي في كل عصر

  18 فبراير 2019    قرأ 1209
الإنسان المهزوم.. وصناعة البطل الوهمي في كل عصر

اعتاد الناس في المجتمعات القديمة وبشكل مستمر البحث عن البطل والبطولات، حتى أصبح البطل إرثاً للأجيال بعد أن كان معتقداً، والشاهد أنه حين يموت البطل في الأذهان الجديدة يتم خلق آخر بمعايير جديدة، فشخصية البطل وإن كانت خيالية أسطورية أو خرافية وحتى الشخصيات الواقعية ببطولاتها الملموسة، كلها تمنح الخصوصية الفكرية لكل مجتمع، خاصة إذا تشبث بأبطاله روحاً ومعنى، والشاهد أن وجود الأبطال منح طويلاً الإحساس بالأمان والدفء، على الرغم من المبالغة في بعض الأحيان حين يتم تحويل الشخصية الواقعية الشعبية إلى شخصية خارقة، بحجة أنها مثال للانتصار والعدل والخير والحق والحرية، فما حكاية البطولات التي استند إليها الإنسان طويلاً؟

صناعة البطل

استمر الإنسان عبر الزمن في تأطير معنى البطل والبطولات من خلال شخوص أدبية ودينية وسياسية، ليتم إسباغها بخصائص مبهرة تصل إلى إلغاء العيوب بغية تحويلها إلى منزلة ما، فيغدو بطلاً خارقاً يستند إليه الإنسان جيلاً فجيلاً، على الرغم من أن البطل مسمى اتفقت كل المعاجم اللغوية على أنه إنسان شجاع ونبيل وقوي، إلا أنه وقبل العلوم اللغوية كانت البطولة للشخصية الأسطورية التي لا نظير لها، وهو آتٍ بصفات إلهية كما في الحضارات القديمة، أو رسلاً فيما بعد، وحتى شعراء، لكنها مستمرة حتى يومنا هذا بشكل أو بآخر، حتى أصبحت البطولة للفنانين النجوم والكتاب من المشاهير.

وإن فسرنا مفردة البطل «هيرو» بمعناها اللغوي الإغريقي في أصله، فهو الخالد بأعماله وإنجازاته، وهو نصف إله، مثل ما وضعوا في هذا المقام الإسكندر المقدوني، وكذلك جلجامش في بلاد سومر بوصفه نصف آدمي ونصف سماوي، مروراً بالفراعنة في مصر.. وجمعيهم من صناعة الإنسان نفسه، أما في جزيرة العرب فالبطولة تبدو بصفة مشابهة لمن يملك المروءة والثبات في المواقف الصعبة، أو المقدام في تفوقه كفارس، أو لغوي بمرتبة شاعر مع رجاحة العقل، ليمثل عنهم، أو يقول ما لا يقال، فحدث أنه تم خلق شخصيات يعبرون من خلالها عن أنفسهم، كما حدث مع عنترة بن شداد، الذي يعده البعض شخصية غير حقيقية، حتى في بطولاته ومعاركه المنتصرة، وكذلك معلقته الشعرية ودفاعه عن الحرية، وانتهاءً بابنة عمه عبلة التي رافقته في أشعاره وسيره الشعبية، فليس لهما أصل في الكتب المعتبرة، الأمر الذي دعا بعض الشعراء لتوظيف لغتهم للولوج إلى ما يريدون، لتصبح صناعة البطل لها أسبابها ودواعيها، وتبقى شخصيته الشعبية لا التاريخية صادمة للأجيال التالية حين يكتشفونها، لكن تبقى ظاهرة تهدف إلى تحقيق كينونتهم الإنسانية فيتم خلق البطل البديل والمقنع لزمنه.

شكسبير البطل

أما بالحديث عن الكاتب المبدع البطل، فلا يمكننا اليوم أن نضع أعمال الإنجليزي وليام شكسبير (مثلاً) في خانة المؤلف غير الحقيقي، لكننا لا نستطيع أن نثبت أنه شخصية غير مبتدعة وغير واقعية، فقد تم إثبات مولده وأوراقه وقريته وزوجته وقبره، فأخذ البطولة الأدبية ولمدة قرون ومن دون أن ينطفئ، حيث يتم نقاش أعماله التراجيدية إلى اليوم وبإعجاب شديد، مثل «هاملت» و«عطيل» و«أوديب».. على الرغم مما يقال عن مفرداته الكثيرة التي باتت صعبة ولم يعد يفهمها الجيل الحالي الذي لم يعد يقرأ اللغة الشكسبيرية، أي وكأنها لغة البطولة التي لن تتكرر، ولأنه ظاهرة ما زالت حية، يقول بعض النقاد إنه لربما اشترك عدة أشخاص في الكتابة معه، نظراً لعمق أعماله التنويرية، إذن من حق شكسبير أن يتحول مع الوقت إلى شخصية بطولية في كل المحافل الثقافية، فهو أشبه بشخصية خيالية أحياناً بسبب إبداعه المختلف، ولما امتازت كتاباته من ثقافة عالية وعلم معرفي شديد التباين وواسع المعنى.

أبطال

وبلا شك أن شخصية الطبيب والمناضل الأرجنتيني إرنستو تشي جيفارا المعروفة، والقادم من قارة أمريكا الجنوبية والبحر الكاريبي، حيث العاصمة الكوبية هافانا، وهو القريب من زمننا، حيث لم يترك الحياة سوى من نصف قرن، لكن العالم كله يشهد على بطولته الأممية، حيث امتدت من كوبا إلى أمريكا الجنوبية، ليظل في أذهان الشعوب الكادحة، بطلاً أممياً بلا عيوب في مجال حقوق الإنسان والسياسة والدفاع عن الفلاحين والمتعبين.. وهذا ما نريد توضيحه من خلال في هذه البطولات الحقيقية، وكيف تتحول إلى بطولات تلعب دوراً أساسياً في الحياة، مثلها مثل البطولات في الروايات والمسرحيات، وإن كانت البطولات فيها مزيفة، فالأهم أن تنطبع في الذاكرة الجمعية وتتوارثها.

النسج حول البطولات الخيالية الموحية بالشهامة مع التضحية سواء في العمل السياسي مثل الرئيس المصري جمال عبدالناصر الملقب بـ«الزعيم»، أو مجال في العبقرية اللغوية والأدبية كما الشاعر أبو الطيب المتنبي، إلى بطولة الحب المميت، كما حدث مع قيس بن الملوح وليلى العامرية في جزيرة العرب، ليصر البعض على أنها قصة خرافية شعبية لا أصل لها، ونقول لربما تم خلقها لإيصال صوت القصائد الغزلية فإثراء الأجواء اللغوية الرومانسية لطبقات مادية أو كادحة متمثلة بتجربة إنسانية مرتبطة بملامح البطل العاشق الشعبي وتجربته.

حاجة إنسانية

بقي هذا الطبع الإنساني البعيد موروثاً بتحويل الفرد الحقيقي إلى بطل نجومي خالٍ من العيوب أو خارق أو أسطوري كما كان في زمن البطولات الأولى، أو شخصية شبه خرافية يتم تحويلها إلى حقيقية، ليلعب دوراً في جميع مناحي الحياة الصادمة، فلا بد من حضور بطل مثالي، وخاصة حين لا يجد الإنسان المتعب المعين لحمل أثقاله وأوجاعه ليناجيه، مضطراً هذا الإنسان البسيط من خلال ميوله وبواعثه النفسية إلى خلق التعايش مع بطل يشعر معه بدفء الاطمئنان ولو خيالاً.

وأخيراً، بين البطل الأسطوري والبطل التراجيدي.. ألبس الإنسان المعاصر بطله اليوم لبوساً أسطورياً مختلفاً ذا حلِّة إيجابية مضحية ومناضلة في سبيل الجماعة، وذا شخصية شجاعة مؤمنة بالاستبشار ليكون قدوة لآلاف الشباب، كما تطورت البطولة في مفهومها من الآلهة إلى الرؤساء ورجال العسكر والقبائل ومديري الشركات وحتى إلى عامة الناس من منطلق إبداعاتهم واختراعاتهم الحديثة.

البطولة من التراجيديا إلى الدراما


عادة معروفة لدى الأدباء، الاعتماد في كتاباتهم الأدبية بأنواعها إما على أساطير قديمة بوصفها أدباً فنياً ضخماً كالملحمة والتراجيديا، أو يعتمد على الخرافات، مثل السير والحكايات الشعبية، أو أي خرافة ذات أصل شعبي.. المهم أنها كلها في حقيقة الأمر تُعبِّر الآن عن اتساع الوعي الجماعي، وبهدف تنظيم الحياة من جديد.

وفي الحقيقة إن أتينا إلى بطولات الملاحم التراجيدية فهي كثيرة، نجدها مثلاً لدى الشاعر هوميروس في ملحمته «الأوديسة» حين خلق أبطالاً خياليين عدة، منهم «أوديب» البطل الملحمي الأزلي الذي أراد قتل والده ليتزوج أمه، وهناك شخصية «أنكيدو» في ملحمة «جلجامش» الشعرية، و«أنكيدو» شخصية برية فطرية تم تغييره ليصبح مدنياً حتى تنتقم منه الآلهة بقتله عن طريق الثور رمياً عليه من السماء، إلى كل البطولات الملحمية التي تعتمد على الآلهة.. هذه البطولات الخارقة أنهاها الفيلسوف اليوناني أرسطو حين حدد معنى «البطل التراجيدي»، فقام بتحديث هذا المعنى البطولي ليحوله من التراجيدي إلى الدرامي، وله الفضل الكبير في ذلك، فالدراما مطهرة للانفعال وتثير الإحساس بالخوف والشفقة، والهدف النهائي هو التحرر من العمى، وبالتالي يلقي الإنسان عن كاهله قيود الأعباء ولو بشكل مؤقت، ومذ ذاك تحول الأدب إلى الشفاء من البطولات المطلقة، وتحرر من الخوف من نزول الكارثة لمجرد ذنب صغير.. إلى بطولات شخصيات تشبهنا، تمتاز بالرحمة فنحس بها.

وأخيراً، تأثر الأدباء بعد أرسطو بأثر التراجيديا المنطبق تماماً على المعايير الفنية والنفسية، التي يقيس بها أدباء اليوم مفهوم الشفقة في أعمالهم بعد نهاية البطل.

«سلامة وبناتها» وانتقام البطلة

النهايات المؤلمة حاضرة وبقوة أيضاً في الحكايات الشعبية التي انتصرت للبطلة المرأة تحديداً، مثل خرافة «سلامة وبناتها» بالانتقام عبر الطبيعة والبحر، فسلامة زوجة صياد لم تنجب سوى البنات، اعتدى عليها بالضرب طويلاً حتى هددته كأنثى تحمل في داخلها كرامة الجمال والحب، بالشكوى عليه عند شيخ القبيلة، ليخاف ويظهر ذلك الجبن في رأسه، ويقرر التخلص من سلامة وبناتها في وسط البحر كي لا تفضحه، لتتحول المرأة إلى بطلة من جبل وسط البحر تحيط بها جبال ثلاثة «هن بناتها»، فلم يكن لهن من هدف إلى إغراق سفن الصيادين وبلعها.

«بن ظاهر» والبطولة المختلفة

في الواقع أن الشاعر الجلفاري الماجدي بن ظاهر، بحث عن بطولة أخرى، هذا إن تحدثنا عن بطولة في أرض الواقع لكنها تشبه الخيال، فالشاعر لديه أدب شعبي متميز، لكن انتقال قصته الشهيرة بشكل مروي وشفهي، منح الشاعر بعداً انفرادياً ومختلفاً، في بحثه عن قبر يؤويه في أرض طيِّبة وأصيلة لا تأكل عظامه ولأطول فترة ممكنة، من خلال اختباره على كل قطعة أرض يزورها ليرمي عليها قطعة من لحم ليرى مدة تعفنها ويقرر أن يخلد جسده فيها، حتى بدت حكايته أشبه بحكاية فنية لها أبعادها ورسائلها العميقة.

بطولات حديثة وبشخصيات متنوعة

ليس أقدر من القاص أو الروائي في يومنا هذا على منح الناس رغم انشغالاتهم في الحياة قصصاً تصور حياة النفس الإنسانية ليتغلغل في أعماقها، فيهتم بنماذج بشرية واقعية من التجمعات ومن خلال شخصيات متمردة ومختلفة أو منتمية إلى طبقة متميزة، وبما أن القصة والرواية هي الفن الوحيد الذي ورث الملاحم والتراجيديات والأساطير والخرافات الشعبية، لكن خضع البطل ببطولته في يومنا هذا للرواية والقصة المكتوبة لتصبح إما شخصية مركزية أو سلبية أو ثابتة أو نامية أو مسطحة ليسميها أخيراً بعض النقاد الشخصية المكثفة، ليعود البطل الذي لا نمل من خلقه.

1953

تم الاعتماد على كتاب «فن الشعر» لأرسطو، بعد شرح الفارابي وابن سيناء وابن رشد، بتحقيق وترجمة عبدالرحمن بدوي، والصادر 1953، عن مكتبة النهضة المصرية.

1987

مصدر آخر تم الاعتماد عليه في هذا البحث، وهو كتاب «الجامع في تاريخ الأدب العربي - الأدب القديم» للمؤرخ اللبناني حنا الفاخوري والصادر 1987، عن دار الجيل للطباعة والنشر.

1998

من المصادر المعتمدة أيضا في هذا الموضوع كتاب «البطل في الأدب والأساطير» للمؤلف شكري محمد عياد، الصادر 1998، عن دار أصدقاء الكتاب للنشر والتوزيع في القاهرة.

 


مواضيع:


الأخبار الأخيرة