هل انتهى عصر السترة ورابطة العنق؟

  15 ‏مارس 2019    قرأ 1128
هل انتهى عصر السترة ورابطة العنق؟

أصبحت مؤسسة "غولدمان ساكس" المصرفية والاستثمارية الأمريكية قبل أيامٍ الاسم الأحدث على قائمةٍ تضم عدداً كبيراً من الشركات والمؤسسات التي أصدرت قواعد جديدةً بشأن طبيعة الثياب التي يُنتظر من موظفيها ارتداؤها في مكان العمل، بما يسمح لهم بمزيدٍ من المرونة في هذا الشأن.

وبموجب القواعد الجديدة، أصبح بمقدور الموظفين من الرجال عدم التقيد بالسترات الرسمية وارتداء سراويل عصرية، كما صار بإمكانهم التخفف من ربطات العنق المربوطة بإحكام حول أعناقهم، طالما كانوا قادرين على اختيار ثيابٍ ملائمة للظهور بها في مكان عملهم.

فهل يشكل هذا بداية النهاية للمظهر التقليدي للرجال المتمثل في ارتدائهم ستراتٍ وأربطة عنق؟ وإذا كان الحال كذلك، فما الذي يعنيه ذلك على صعيد الهوية الذكورية بشكلٍ عام؟

وعلى مدى فترات طويلة، كان هذا النوع من الرداء مرادفاً لضربٍ بعينه من "شخصيات ذكورية ذات سمتٍ نبيل". لكن ما الذي يعنيه من الأصل أن يكون الرجل الآن "نبيلاً" أو "جنتلمان" بالتعبير الإنجليزي الدارج في هذا الشأن؟ فهذه المفردة تبدو وقد عفا عليها الزمن، بما يستحضره ذكرها في الذهن من صورةٍ لرجلٍ يرتدي حذاءً لامعاً مصنوعاً من الجلد، وسترةً من ثلاث قطع، بملامح وتصرفاتٍ يبدو عليها سمت الشرف والنبل.

كما أنه يُفترض أن يكون "الجنتلمان" رجلاً متفوقاً على سواه في كل شيء. ومن بين المؤشرات على الغموض الذي يحيط بهذا التعبير منذ عقود، ما حدث عام 1957 من إقدام مجلة "جنتلمانز كوارترلي" الأميركية المتخصصة في أحدث الصيحات الخاصة بالرجال - والتي أُسِسَتْ عام 1931 - على تغيير اسمها إلى "جي كيو".

وقد حدث ذلك في حقبةٍ شهدت هجوماً مستمراً على الهيمنة الذكورية والمفاهيم التقليدية للذكورية بشكلٍ عام، إذ اتسمت فترة الستينيات من القرن الماضي في الولايات المتحدة بأنها فترة حرب فيتنام والاحتجاجات العنيفة والتحولات الثقافية الكبيرة. كما اغتيل خلالها الرئيس الأمريكي جورج كينيدي - الفارس المتألق والرمز البارز لنبلاء العصور الوسطى - أمام أعين العالم في عام 1963.

وقد اعتاد كينيدي ارتداء ستراتٍ ذات صفٍ واحد من الأزرار، وقمصانٍ بيضاء اللون مكويةٍ بعناية وأربطة عنق ملساء ناعمة. لقد كان مظهراً أنيقاً وجذاباً ونمطياً كذلك، وكان كل ما فيه يتعلق بكيف يمكن أن يكون المرء مُتحكماً في التفاصيل. لكن برغم أن كينيدي كان متألقاً في ستراته الرسمية فإنها كانت تبدو على غالبية الرجال الآخرين مجرد زيٍ موحدٍ لا أكثر.

وبالمثل، كان يُفترض أن تكون الذكورة ومفاهيمها أشبه بنمطٍ أو زيٍ موحدٍ أيضاً. لكن بحلول ستينيات القرن الماضي، ظهر شكل من أشكال التشاحن بشأن الألوان وأنماط الزي الفوضوية التي ظهرت في ذلك الوقت وكانت مرتبطة بالهيبيز. وكان كل ذلك مرتبطاً بحرية التعبير عن النفس بمختلف الأشكال، وتحدي القوالب الذكورية - المتمثلة في الصورة التقليدية لرجالٍ يرتدون ستراتٍ رماديةً اللون - وكل ما تمثله وتعبر عنه.

ولذا صارت سراويل الجينز زرقاء اللون رائجةً في تلك الفترة، بما يتسم به تصميمها من بساطةٍ، وما تمنحه من راحةٍ لمن يرتدونها، وكذلك كون أسعارها في المتناول. وشكّل ذلك خطوة صغيرة على طريق الثورة التي نشهدها اليوم، على صعيد ما يُعرف بتفضيل "تصميمات ثياب الشوارع"، وهو ما يعني ارتداء المرء ما يحلو له من ملابس دون التقيد بالصيحات السائدة.

وإذا انتقلنا بقفزةٍ واسعةٍ إلى حفل توزيع جوائز الأوسكار الذي أقيم أواخر فبراير/شباط الماضي، سنجد أن الكثير من الرجال الحاضرين كانوا يرتدون ستراتٍ كذلك، لكن بتنوعٍ هائلٍ للغاية في الألوان والتصميمات.

ومن بين هؤلاء، تشادويك بوسمان أحد نجوم فيلم "بلاك بانثر" أو "النمر الأسود"، الذي يدور في عالم الأبطال الخارقين للطبيعة، إذ ظهر هذا الرجل مرتدياً سترةً كثيرةً الزخارف والنقوش، ما يجعلها أقرب إلى الفساتين منها إلى السترات.

لكن ما ارتداه بيلي بورتر نجم مسلسل "بُوس" التليفزيوني كان الأكثر إثارةً للدهشة على الإطلاق، إذ كان عبارةً عن ثوبٍ ضخمٍ، امتزجت فيه عباءةٌ غطت النصف السفلي منه بسترةٍ من النوع المعروف باسم "توكسيدو" بدأت من عند الخصر. فكيف انتقلنا من عصر ارتداء "ستراتٍ ملائمةٍ لكل الأغراض العملية" يستخدمها "رجالٌ قادرون على أداء مختلف المهام" إلى الوضع الحالي الذي نراه اليوم؟

على أي حال، فلتنس النقاش الخاص بالمعايير التي يمكن وصف شخصٍ ما بناءً عليها بأنه "جنتلمان" من عدمه، إذ أننا صرنا الآن في خضم نقاشٍ حول معايير تصنيف شخصٍ ما على أنه رجلٌ أم لا من الأساس، بل أصبحنا - وهذا هو الأكثر أهمية - وسط جدال بشأن ما هي طبيعة الشخصية التي يتوجب أن تكون للرجل من الأساس. فالمجتمعات المتعددة التي نعيش فيها هي التي صارت تحدد طبيعة شخصياتنا.

ويقودنا هذا للحديث عن أحدث التحولات التي طرأت على مجلة "جي كيو" الأمريكية. ففي مطلع العام الجاري، اختير المسؤول عن قسم الابتكار في المجلة، ويل ويلش، كرئيس تحريرٍ جديدٍ لهذه المطبوعة موكلاً بمهمةٍ تتمثل في تجديد شبابها وجعلها مواكبةً لروح العصر.

وبينما تعاني وسائل الإعلام المطبوعة منذ فترة من تحدٍ يتعلق بقدرتها على مواكبة وسائل الإعلام الإلكترونية وما تشهده ساحتها من طفرةٍ هائلة، فإن مشكلة "جي كيو" تتسم بطابعٍ أكثر تعقيداً في ضوء أن جمهورها المستهدف في الوقت الراهن هم من الشباب الذين تقل أعمارهم عن 40 عاماً، والذين يصعب استهدافهم برسائل إعلاميةٍ لأنهم يكرهون أن يجري استهدافهم بمثل هذه الرسائل.

يُضاف إلى ذلك أن تعريف "الرجل" بات يكتنفه الغموض والضبابية، وهو ما يعني أن المجلة التي كانت تستهدف في البداية "الرجال النبلاء" ثم حوّلت اهتمامها إلى "الرجال" ربما باتت في طريقها لاختيار جمهورٍ مختلفٍ، لكن أي جمهور هو؟ ولذا بدا أن ويلش يواجه مهمةً مستحيلة.

وفي أول عددٍ يتولى فيه ويلش منصبه الجديد، وهو العدد الذي صدر في فبراير/شباط الماضي، نُشِرَت له صورةٌ يجلس فيها على الأرض وهو يرتدي حذاءً رياضياً وقميصاً مفكوك الأزرار، وتحته قميصٌ واسع قصير الكمين. ورغم أن شعره كان مفروقاً من على أحد الجانبين، فقد كان هناك وشمان على إحدى يديه، وهو الشيء الذي ينبئنا بأننا لم نعد في عصر الرجال الفرسان والنبلاء بأي شكلٍ من الأشكال.

كل شيء ممكن
وقد شكلت هذه الصورة إعلاناً للنوايا في مجلةٍ اعتادت تخصيص مساحاتٍ لا يستهان بها من صفحاتها لتفاصيل رابطة العنق وشكل الجيوب. وفي هذا الصدد، قال ويلش لبي بي سي: "لم أُرِد فقط أن أشعر بأي ضغوطٍ تجعلني التزم بتجسيد فكرةٍ يتبناها آخرون، حول شكل الزي الذي يتعين على رئيس تحرير `جي كيو` ارتداؤه. رؤيتي للمجلة هي أن تساعد القارئ على معرفة نفسه وأن يثق بها ويتعلم أن يكون على أفضل حالٍ ممكن، بدلا من التطلع إلى تصورٍ مثاليٍ خياليٍ، أو أن يرتدي نمطاً معيناً من القمصان".

وإذا عدنا لأول عددٍ أصدرته "جي كيو" بقيادتها الجديدة، فلن تجد على صفحاته سوى بضع سترات، أكثرها تقليدية في مظهرها كان صاحبها يرتديها دون جوارب. أما الباقي فأظهر مجموعةً من الأشخاص ممن حددوا بأنفسهم شكل الثياب التي يظهرون بها، مثل فرانك أوشين وسانت فنسنت وجون ماير وجيمس بالدوين.

لقد بدا الأمر وكأن طريقاً يتم شقه هنا لكي يمضي عليه آخرون فيما بعد. يقول ويلش عن ذلك: "أعتقد أن تآكل التقسيمات الثنائية من قبيل رجل-امرأة وذكر-أنثى وأسود-أبيض وما إلى ذلك، هو أمرٌ مفيد للثقافة والمجتمع ككل، إذ أنه يعني أن علينا الإبقاء على أذهاننا متقدةً وقلوبنا مفتوحة. كما يعني أنه يتوجب علينا الاعتراف بكرامة كل فرد وخصوصيته وتفرده، واحترام كل ذلك أيضاً".

وهناك مؤشرٌ جيدٌ آخر على التحولات التي تلحق بعالم ملابس الرجال يمكننا استقاؤه من "مستر بورتر"، وهو موقعٌ لبيع ملابس الرجال بالتجزئة على شبكة الإنترنت. إن تصفحك لمواقع مثل "مستر بورتر" ولو لدقائق قليلة سيعطيك فكرةً عن النطاق الواسع للملابس والإكسسوارات المتاحة للعملاء من الرجال، وستجد كذلك أن السترات لا تشكل سوى جانبٍ محدودٍ للغاية من هذه المجموعة.

ورغم ذلك، لا تزال الملابس التي تحيكها شركاتٌ بارزةٌ معروفةٌ بمنتجاتها غالية الثمن مثل "توم فورد" و"إرمينجيلو تزينيا"، تشكل دوماً عنصراً أساسيا في المنتجات التي يعرضها الموقع لعملائه، حسب فيونا فيرث، مديرة قسم المشتريات بالموقع، والتي تقول: "في عصرٍ هيمنت فيه الملابس الأنيقة المتحررة من القيود (المعروفة باسم الكاجوال)، تراجعت مكانة الثياب ذات التصميمات التقليدية، بعدما أصبح الرجال يرتدون ملابس أكثر بعداً عن الطابع التقليدي في حياتهم اليومية. لكن الثياب التقليدية كانت وستظل مُحتفظةً بأهميتها، في ضوء أنه ستكون هناك دائماً مناسبةٌ في حياة كل رجلٍ، يحتاج فيها لارتداء سترة، سواء كان ذلك في صورة حفل زفافٍ أو حدثٍ متعلقٍ بشركةٍ يعمل فيها، كما يبقى الأمر بالنسبة للكثيرين متعلقاً بالزي الذي يتم ارتداؤه في مكان العمل".

وتشير فيرث إلى أن تصميم السترات أصبح أكثر مواكبةً للعصر، من خلال تبني "أسلوبٍ أكثر استرخاء وابتعاداً عن النمط التقليدي، لأن الرجال يرتدونها وهم يلتزمون كذلك بمعاييرهم الحديثة لطبيعة ملبسهم. أعتقد أنه سيكون دائماً للسترة مستقبلٌ، لكنها فقط ستتكيف للتأقلم مع أنماط حياة الرجال دائمة التغير".

وإذا نظرنا إلى قائمة "مستر بورتر" لأكثر الرجال أناقة من حيث الملبس خلال عام 2018، سنجد أنها تضم ثمانية رجال؛ ثلاثةٌ منهم يرتدون سترات؛ بينهم الأمير تشارلز. وكان واحدٌ فقط من بين هؤلاء الثلاثة يرتدي سترةً ذات تصميمٍ تقليدي، وهو وريث العرش البريطاني. وينحدر الرجال الثمانية من أعراقٍ شتى، ولكل منهم شخصيته وملابسه المتفردة إلى حد كبير.

أما إذا أولينا اهتمامنا لأسبوع لندن للأزياء، فسنجد أنه كان من بين حاضريه، لاعب كرة القدم هيكتور بيليرين الذي ظهر مرتدياً سترةً أشبه بمنامةٍ حريريةٍ، وانتعل خفيْن مُزودين بالفرو من تصميم غوتشي.

وعلى النقيض من ذلك، ربما تبدو أسماء المُدرجين على القائمة التي صدرت في فبراير/شباط الماضي لأكثر الرجال أناقة من حيث الملبس، أقل شهرة، لكن من الواضح أن قدراً أكبر من التفكير قد كُرِسَ لاختيار من أُدْرِجوا عليها. فأربعة من الثمانية الموجودين فيها يرتدون سترات، وهو أمرٌ يُعزى إلى تأثرها بل وتشوهها بسبب حفل توزيع جوائز الأوسكار والسترات التي ظهرت فيه. ومن بين هؤلاء، تشادويك بوسمان الذي بدا لافتاً للنظر من جديدٍ بسترةٍ وردية اللون.

وعلى أي حال، ينصب تركيز هذه القوائم على الأشخاص الذين يرتدون ملابسهم على نحوٍ ينطوي على مجازفة، وما إذا كان هؤلاء يحبون ذلك من عدمه.

وبوسعنا القول إن السترات تتغير كما تتبدل طبائع وأحوال الرجال الذين يرتدونها. فبينما كان ارتداء هذا النوع من الملابس ينطوي على الانصياع لمراسم وقواعد وبرتوكولات صارمة، يبدو الآن أن كل شيءٍ ممكنٌ، وبات المرء يرى من يرتدي سترةً أنيقةً وينتعل في الوقت نفسه حذاءً رياضياً. كما نرى سُتراتٍ بألوانٍ متنوعةٍ ومتعددةٍ، بما في ذلك الأرجواني والوردي الفاتح.

وعلاوة على ذلك، باتت السترات تُستوعب في منظومات أكبر وأكثر تعقيداً مرتبطة بقواعد الأزياء. ويقول ويلتش عن ذلك: "ما أراه عندما أكون في لوس أنجليس أو نيويورك أو لندن أو باريس، هو أن كل شيء مرتبطٌ ببعضه بعضاً في الوقت ذاته. إذ يمكنك ارتداء سترةٍ مثلاً، أو حذاءٍ رياضيٍ لم تطرح الشركة منه سوى كميةٍ محدودة. بوسعك أن تكون أقرب قليلاً للنمط الذي كان سائداً في الستينيات أو السبعينيات أو الثمانينيات أو التسعينيات. ويمكن للشخص نفسه أن يرتدي خلال أسبوعٍ واحدٍ أنماطاً مختلفة من الملابس، تتنوع ما بين الثياب ذات الطابع الرسمي بقدرٍ ما، وصولاً إلى تلك المتحررة من أي قيود."

أما إذا تطرقنا إلى ما يجري على صعيد الهوية الإنسانية نفسها، فيتوجب علينا الإقرار بأننا نعيش في أوقاتٍ مُفعمةٍ بالإثارة والحماسة معاً على هذا الصعيد. فالثقافة الذكورية التي أدت إلى ظهور السترات التقليدية بخطوطها الصارمة والمنضبطة، ربما تكون في طريقها إلى الزوال، لكن شيئاً آخر مختلفاً يتشكل. فبينما ستظل السترات سوداء ورمادية اللون دائماً مُصنفةً كزي ذي طابعٍ تقليدي، أتطلع إلى اليوم الذي ستصبح فيه "عباءة التوكسيدو" التي ارتداها بيلي بورتر في حفل الأوسكار الأخير، تقليديةً هي الأخرى.


مواضيع:


الأخبار الأخيرة