وتتصادم داخل فيلم "واجب" ثنائيتان أساسيتان هما: الداخل والخارج، والمثالية والبراغماتية، اللتان تتجسدان في لقاء الإبن الفلسطيني المغترب مع والده الذي يعيش في مدينة الناصرة، التي تضم أحد أكبر تجمعات عرب 48 في شمال إسرائيل.
وتترك جاسر تلك التصادمات الإشكالية من دون تقديم خلاصات أو حلول محددة، فما يهمها هو الحياة ولا شيء سواها، الحياة التي تصبح مجرد إدامتها في واقع اختلال واستلاب منجزا بحد ذاته.
مهرجان لندن السينمائي: حضور قوي للمرأة ومشاركة عربية مميزة في "مهرجان المهرجانات"
"البحث عن أم كلثوم" محاولة لتفكيك أسطورة كوكب الشرق
افتتاح مهرجان لندن السينمائي: "تنفس" رسالة أمل وبحث عن فرح في قلب المأساة
تلجأ جاسر إلى استخدام ما يشبه أسلوب أفلام الطريق لتقديم تلك الصورة البانورامية عن حياة الفلسطينيين في الناصرة، عبر تلك الرحلة - في سيارة قديمة من طراز فولفو - التي يقوم بها شادي (الممثل صالح بكري) ووالده أبو شادي (الممثل محمد بكري)، وهما في الواقع ايضا أب وإبنه.
واجب إدامة الحياة
أحداث الفيلم تبدأ مع عودة شادي من إيطاليا، حيث يعمل مهندسا معماريا، إلى الناصرة لحضور حفل زفاف أخته ومساعدة والده في تحضيرات العرس.
ويصر الأب، ضمن مفهوم الواجب بالتقليد الاجتماعي، على تسليم بطاقات الدعوة لحفل الزفاف إلى كل الأصدقاء والأقارب بنفسه مع إبنه، الأمر الذي يقودهما في رحلة طويلة للوصول إلى بيوتهم.
وعبر الحوارات بين الأب والإبن في الطريق تتكشف لنا الخلافات بين وجهتي نظرهما وطباعهما كما يتكشف ماضي عائلتهما نفسه، فضلا عن صورة الحياة اليومية في الناصرة مع تلك الزيارات التي يقومان بها لأسر مختلفة وطوافهما في شوارعها.
في هذا التجوال، نكتشف شخصية أبو شادي، المعلم الذي يتمتع بعلاقات طيبة مع الجميع، ويضطر أحيانا إلى الكذب لمجرد إرضائهم، أو موافقة آرائهم، وفي ذلك أقصى البراغماتية مقابل مثالية الإبن وصدقه وآرائه الأرثوذكسية.
ففي زيارة إحدى الأسر، يكتشف الإبن أن والده قال لأحد شيوخها - وهو طبيب - إنه درس الطب في إيطاليا، أو يطلب منه أن يذهب لجلب بطاقة دعوة لأحد الأشخاص من السيارة، وهو في الحقيقة لم يوجه أي دعوة له، إذ يذهب الأب بنفسه ويكتب بطاقة دعوة جديدة موجهة إلى هذا الرجل متهما إبنه بأنه لم يرها.
لقد علّمت الحياة في واقع قهر صعب الأب أقصى أنواع المرونة والبراغماتية، لكننا في الوقت نفسه نراه يسخرها لخير الناس وليس لمصلحته الشخصية.
وبالمقارنة مع الأم التي ضجرت من الحياة المملة وتركت أولادها وهاجرت لتتزوج رجلا آخر، نجد أن أبو شادي هو من تكفل بتربية أولاده ورعايتهم، وهو المنشغل بكل تفاصيل عرس ابنته والحريص على إنجاحه. إذ نراه يتعامل مع إدامة الحياة على أنها واجبه الوحيد.
أب وأبن في الفيلم والواقع
ويقود هذا التجوال شادي إلى صديقة قديمة، تبدو تعيش حياة مختنقة بالضجر والكتب، فتحاول الانفراد به عند تسليمه الدعوة وممارسة الجنس معه. كما تقوده الرحلة إلى لقاء إبنة عمه المحامية القوية التي ترفض الهجرة وتواصل حياتها رغم كل الظروف والخيبات بحيوية ونشاط. وتتوالى عليه صور وسلوكيات مختلفة للأقارب، كما هي الحال مع العمة التي تطلب منه تسجيل مخالفة سير ارتكبها إبنها باسمه لأنه سيسافر إلى الخارج ولا يعيش هنا.
وتتوالى المواقف التي تتكشف فيها الاختلافات بين الأب وإبنه، لكنها تصل إلى ذروتها عندما يأخذه الأب إلى مستوطنة إسرائيلية مجاورة لدعوة شخص يعمل في منصب حكومي بوزارة التعليم الإسرائيلية يصفه الأب بأنه صديقه ويساعده بينما يراه الإبن عميلا للأمن الاسرائيلي وسبق أن تسبب في اعتقاله قبل سفره.
يرفض الإبن الذهاب مع والده ويتهمه بأنه يتواطئ معه للحصول على منصب إدارة المدرسة، ويذهب الأب منفردا بعد أن يتركه إبنه، وفي غمرة ارتباكه يدهس كلبا خرج من أحد بيوت المستوطنة ويهرب. هنا توقعنا أن تتابع المخرجة هذا الخيط ومحنة الأب القانونية، بيد أنها أهملت ذلك تماما في ما تبقى من أحداث الفيلم ولم تعد له، على الرغم من أن كثيرا من الإشارات: كتحويل المخالفة المرورية لإبن العمة وغيرها، تلمح إلى أن هذا الخط ربما كان أساسيا في السيناريو.
كما يختلف الأب والإبن بشأن الفتاة التي يعيش إبنه معها في ايطاليا، وهي إبنة أحد القياديين في منظمة التحرير الفلسطينية، والذي يتهمه الأب بالبعد عن الواقع والعيش مرفها في الخارج، ولكن عندما يجبره الإبن على الحديث معه عبر الهاتف، لا يتورع أن يصف له حياة متخيلة عن المكان الذي يعيش فيه ووصف جماله بشكل غير حقيقي لكنه متناسب مع خيال الحنين الذي يعيشه الرجل المغترب.
ومع أن تركيز جاسر في الفيلم على تقديم صورة بانورامية للحياة في الناصرة، إلا أنها لم تتخل عن بناء تصاعد درامي في عملها يبلغ ذروته مع هذا الخلاف بين الأب والإبن، وكذلك موقف الأم التي تعتذر عن حضور حفل زفاف إبنتها في الربع الأخير من الفيلم، بسبب مرض زوجها بمرض خبيث يؤدي لاحقا إلى وفاته.
ولا تحل جاسر أيا من التصادمات التي طرحتها، بل تتركها تترى أمام مشاهدها، فما يهمها استمرار الحياة نفسها التي تحتفي بها صور فيلمها بمحبة ولمسة شاعرية واضحة.
من الأدب إلى السينما
لقد نجحت جاسر في هذا الفيلم أن تثبت أقدامها كواحدة من المخرجات المُجيدات القلائل في السينما العربية، بعد أن لفتت الأنظار إليها في فيلماها السابقان "ملح هذا البحر" 2008، و"لما شفتك" 2012 ، فضلا عن أفلامها القصيرة ومن أشهرها "كأننا عشرون مستحيلا".
ولاشك أن أحد أهم عناصر النجاح في مسيرة جاسر تمكنها ودربتها العالية في مجال كتابة السيناريو، إذ عُرفت بكتابة سيناريوهات كل أفلامها، وقد حصلت على أكثر من جائزة في هذا الصدد من بينها جائزة المهر في مهرجان دبي السينمائي الدولي لأفضل سيناريو عن فيلمها "ملح هذا البحر".
وقد تحدرت جاسر من خلفية أدبية في كتابة الشعر والقصة، وبدا أثر هذه الدربة الأدبية واضحا في نتاجها السينمائي بعد تحولها للعمل في السينما في منتصف التسعينيات.
وعلى الرغم من عملها مع ممثل أساسي واحد في أفلامها الروائية الثلاثة (صالح بكري)، إلا أن جاسر أثبتت قدرة مميزة على إدارة ممثليها، واستخلاص أفضل ما لديهم أمام كاميرتها. وتجسد ذلك في الفيلم الأخير في إدارتها للبكريين محمد وصالح، وقيادتها لهما للوصول الى هذا الأداء المميز، حيث ظهرا في أفضل حالاتهما في فيلمهما: باسترخاء وإيحاء بالتلقائية أمام الكاميرا، وقدرة مؤثرة على عكس الانفعالات المختلفة، فكانا أبا وإبنا في الفيلم كما هما في الواقع تماما.
ولابد من التنويه هنا أيضا إلى مدير التصوير الفرنسي أنطون إيبرليه، الذي نجح في التقاط تفاصيل المكان الفلسطيني، وتقديم تلك الصورة الشاعرية عنه على الرغم من أنه يصور في الشوارع والأماكن الطبيعية نفسها في فيلم من أفلام الطريق.
كان إيبرليه حساسا جدا في التقاط التفاصيل الصغيرة وتقديم صور تفيض بنوع من الحنين والمحبة للمكان من دون أن يخل ذلك بشرطها الواقعي وصدقيتها في نقل الواقع اليومي، ويبدو أنه قد خبر تصوير المكان الفلسطيني بعد أن صور عددا من الأفلام هناك، من بينها فيلم هاني أبو أسعد "الجنة الآن" وفيلم الممثلة والمخرجة هيام عباس "ميراث".
مواضيع: واجب،#الأفلام،#