حتى المؤيدون من حيث المبدأ لمثل هذا الاعتراف، ولم يتحفظوا سوى على التوقيت، استهجنوا استنتاج هيلي، الذي بدا أقرب إلى الاستخفاف بالعقول. وعندما اصطدمت باستغراب فاقع، هرعت إلى حجة متهالكة بقولها: "إن السماء لم تهبط" على الأرض، حسب تحذيرات المتخوفين من قرار ترامب، في إشارة إلى أن ردة الفعل العالمية الرافضة برأيها لم تكن كبيرة. ولأنها لم تهبط؛ فإن تسويغات القرار كانت "عين الصواب"، على حدّ تعبيرها.
لكن مرافعتها تلك لم يأخذ بها غير عتاة أنصار إسرائيل، فقد أثار تبريرها الدهشة والقلق على نطاق واسع، لأنه لا يستقيم على قدمين. حتى داخل البيت الأبيض، كان هناك خلاف حول القرار. وقد انعكس ذلك باستقالة دينا حبيب باول (ذات الأصول المصرية) من منصبها كنائبة لمستشار الرئيس لشؤون القومي، في أعقاب الاعتراف، وهي التي سبق لها أن عملت مع الرئيس الأسبق جورج بوش في البيت الأبيض، وتعمل الآن في فريق الملف الفلسطيني – الإسرائيلي مع صهر الرئيس الحالي جاريد كوشنر.
كما انعكس الخلاف في غياب ملحوظ لأركان الإدارة عن مسرح الدفاع عن القرار الاعتباطي الذي اتخذه الرئيس، والذي انعدمت فيه الحسابات الإقليمية والجيو – استراتيجية. ففي العادة، عندما يتخذ الرئيس قراراً بهذا الحجم، تضج شاشات التلفزة بحضور هؤلاء في برامج يوم الأحد التي يشارك فيها كبار الخبراء والمحللين ويشاهدها الملايين، للدفاع عن خطوة الرئيس وتسويقها. لكن ليس هذه المرة. وحدها هايلي قامت بالمهمة، وقد فشلت، كما كان متوقعاً.
إلى جانب ذلك، توقف المراقبون عند مفارقة غريبة؛ ففي حين توالت الاعتراضات العالية في واشنطن على قرار الرئيس، على الأقل من حيث توقيته؛ بدت الردود الرسمية من جانب العواصم العربية الوازنة ووثيقة الصلة بالإدارة وكأنها "هضمت" الخطوة، بل كأنها تعمل على تجريعها بشكل ناعم ومبطن، من خلال مزيج من التخديرات التي تتراوح بين مطالبة الفلسطينيين بالتحلي بفضيلة "الصبر" والتعامل مع هذا التطور بالقدر المطلوب من "البراغماتية"؛ بحيث يتيسر تمرير الخطوة لصالح "الخطة الأكبر". وقد لمّحت هيلي في دفاعها إلى ذلك، عندما قالت إن "هناك الكثير من الأمور المشتركة بيننا وبين العالم العربي .. ومنها أولوية مواجهة إيران".
بهذا تعمل إدارة ترامب على الخلط بين المتاعب والتحديات الإيرانية في المنطقة وبين ضرورة استبدالها بالنزاع العربي الإسرائيلي، على أساس قلب المعادلة بحيث تصبح الأولى أولوية عربية والثانية أمرًا ثانويًا لا يعيق الشراكة لمواجهة "الأولوية المشتركة"، وفي ذلك وصفة مضمونة لطمس الحقوق الفلسطينية، وفي أحسن الأحوال لتمييعها وبما يسهل "تفهم" قرار الرئيس ترامب وتمريره حسب المرسوم.
مثل هذا الانعطاف/الانحدار، على حساب الخطوط الحمراء، لم يكن مفاجئاً؛ هو في حقيقته تحصيل حاصل لسلوك عربي مزمن تدرّج في ابتلاع التنازلات وأدمن على تطبيق بيت الشعر القائل بأن "من يهن بسهل الهوان عليه". وبحسب هذه القاعدة، تراجع الوقوف العربي مع القضية الفلسطينية من الدعم إلى رد الفعل الموسمي الذي تمليه الأحداث. انكفاء من المساندة الملموسة والفعالة، كما حصل في قطع النفط عام 1973، إلى مستوى البيانات الصوتية والاجتماعات للمجالس الصورية والقمم الاستثنائية، التمويهية بكل حال. الأمر الذي تحول معه التضامن إلى مجرد ضجّة لا أكثر.
على هذه الخلفية، وبتسويغ بالغ الهشاشة، حوّل ترامب "صفقة القرن"، وبتعسف قافع، إلى "صفعة القرن"، التي طاولت قرارات مجلس الأمن والمجتمع الدولي برمته والعرب والمسلمين، وحتى المسيحيين في الشرق، ومن دون أن يرف له جفن.
مواضيع: قرار،ترامب،