قضية القدس كـ"نافذة فرص"

  24 ديسمبر 2017    قرأ 638
قضية القدس كـ"نافذة فرص"
أصدر الكنيست الإسرائيلي "قانون القدس" الذي يعتبر المدينة عاصمة موحدة لإسرائيل في ٣٠ حزيران/يونيو ١٩٨٠. وبعد أقل من شهرين٬ أصدر مجلس الأمن الدولي القرار ٤٧٨ الذي دان الخطوة الإسرائيلية واعتبرها خرقًا للمواثيق الدولية٬ بموافقة ١٤ عضوًا وامتناع واشنطن عن التصويت٬ ودعا الدول الأعضاء التي تحتفظ ببعثات دبلوماسية عاملة في القدس (وعددها كان ١٣) إلى سحبها.

منذ ذلك التاريخ توالت الأحداث تباعًا في المسار ذاته الذي نلحظ نتائجه اليوم٬ وبعضها كان ذا طابع رمزي لكن واضح المعاني. ففي ١٩٨٩ مثلًا قامت إسرائيل بتأجير قطعة أرض في مدينة القدس لواشنطن لمدة ٩٩ عامًا٬ بغرض إقامة سفارتها عليها مقابل دولار واحد في العام. وفي ١٩٩٥ صدق الكونغرس الأميركي على "قانون سفارة القدس" الذي ينص على وجوب نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس٬ والذي سمح للرؤساء الأميركيين بتأجيل تنفيذه لستة أشهر لعدد غير محدد من المرات.
هكذا٬ راح الرؤساء الأميركيون المتعاقبون يحجمون عن تنفيذ القرار ويؤجلونه ستة أشهر تلو أخرى٬ على اعتبار أن المصلحة الأميركية وتعقيدات الوضع في الشرق الأوسط يقتضيان سياسة أميركية أكثر تحسبًا ومرونة.

ويأتي قرار الرئيس الأميركي بالموافقة على تنفيذ القانون لأسباب بعضها داخلي وبعضها الآخر يتصل بطبيعة سياسة ترامب حيال الشرق الأوسط..

المغزى والتداعيات المحتلمة لقرار ترامب

فالقرار داخليًا يمتن علاقة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بجماعات الضغط اليهودية الداعمة لإسرائيل مثل "إيباك" و"المنظمة الصهيونية في أميركا" و"الاتحاد الأورثوذكسي"٬ وبتيار إنجيلي أميركي محافظ يدعم معظمه خطوة كهذه لأسباب أيديولوجية (ترامب٬ في الانتخابات الأميركية الأخيرة٬ حاز على ٨٠٪ من أصوات الأميركيين الإنجيليين البيض٬ أي أكثر من أي رئيس أميركي آخر في العقود الأخيرة). أما ببعده الخارجي٬ فالقرار٬ كما عبر عنه ترامب نفسه٬ يأتي تنفيذًا لرغبته بتقديم "مقاربة جديدة للصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين".

خطوة الرئيس الأميركي ولّدت ردود فعل على الأرض ما زالت في مراحلها الأولى. و"رؤيته" العامة حيال هذا الملف من شأنها إنتاج ديناميات جديدة وخلق مسارات مختلفة للأحداث٬ في ظل إطار عام للقضية الفلسطينية تتشكل أبرز معالمه كالتالي:

أولًا: يأتي تفاعل الأحداث اللاحق لقرار ترامب ليُظهر مزيدًا من تراجع مكانة الملف الفلسطيني في السياسة الخارجية للرياض٬ حتى على مستوى الشكل والخطابة٬ في مقابل سعي تركيا الدؤوب إلى تعبئة الفراغ "السني" الذي يخلّفه التراجع السعودي (وقبله انكفاء الدور المصري ذي الطابع القومي).

ففي حين برزت لهجة تركيا الحادة على لسان رئيسها أردوغان أثناء القمة الإسلامية الطارئة المعقودة في اسطنبول٬ لم تكن السعودية ممثلة سوى بوزير الدولة للشؤون الإسلامية٬ وجاءت متابعة وسائل إعلامها لتبعات القرار والاحتجاجات التالية له خجولة بأحسن الأحوال.

وسيكون صعبًا على السعودية دحض معلومات سُرّبت على نطاق واسع بُعيد لقاء ولي عهدها محمد بن سلمان بمستشار ترامب جيرالد كوشنير ثم بالرئيس الفلسطيني محمود عباس٬ مفادها أن الأخير أُبلغ وجهة نظر الرياض حيال عرض تسوية مع إسرائيل بدعم أميركي٬ تحظى السلطة الفلسطينية بموجبه بمساعدات مالية ويكون لها تحكم محدود ببعض الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧ ٬ مقابل تنازل عن القدس وحق العودة وعن معظم الأراضي التي أقيمت عليها مستوطنات في الضفة الغربية.

ثانيًا: يأتي ترهل السلطة الفلسطينية المستمر منذ سنوات توازيًا مع محاولات إعادة إنتاجها عبر إطلاق المسار السياسي المذكورة مرفقًا بمساعدات مالية٬ ومع تعويم خليجي-مصري (إمارتي تحديدًا) لمحمد دحلان كوريث محتمل لرئيس السلطة الحالي محمود عباس٬ علمًا أن أسهم الأسير مروان البرغوثي قد ترتفع إذا مالت كفة الأحداث للتحوّل إلى حركة احتجاجية مديدة تشبه "انتفاضة ثالثة"٬ ومال مزاج جمهور "فتح" معها نحو نمط آخر من القيادات٬ وهو أمر مرتبط بعوامل ما زالت غير متوافرة حتى اللحظة.


ثالثًا: يعكس استمرار الثنائية بين "فتح" و"حماس" حصة كل من دول الإقليم على الساحة الفلسطينية، وهذا ما يحمي دوام الثنائية تلك في المدى المنظور٬ حيث لا يُظهر أي من أنقرة وطهران استعدادًا للتخلي عن "حماس"٬ بحيث تعطي الأولى أولوية لجناح الحركة السياسي٬ فيما تولي الثانية اهتمامًا خاصًا بجناحها العسكري.

رابعًا: تسمح عودة قضية القدس إلى الواجهة بترميم العلاقة بين "حزب الله" و"حماس"٬ وبرفع مستوى الدعم المالي والعسكري لحركة "الجهاد الإسلامي" وحركة "الصابرين" الناشئة منذ ثلاث سنوات ومنظمات اليسار الفلسطيني التقليدية٬ وبالعمل على توسيع خيارات المحور الحليف لإيران على الساحة الفلسطينية عبر ابتداع أنماط تعاون مختلفة.

خامسًا: يُتوقع مع الخطوة الأميركية أن ترفع حركات "الجهاد" العالمية منسوب خطابها الدعائي ضد الولايات المتحدة٬ والأمر لا يتعلق ببيان "داعش" الأخير فحسب بقدر ما يتصل باحتمالات نشأة جيل رابع من "الجهاديين" يحاكي بعض أدبيات جيل "القاعدة" الأول الذي بنى مجده على أحداث ١١ أيلول/سبتمبر.

سادسًا: بمعزل عن احتمالات تفجر الأوضاع٬ أو خمودها٬ أو استمرارها على حافة الهاوية٬ فإن القدس ستبقى مادة للقضم الجغرافي والتنازع الديمغرافي.

وتفيد تقديرات مصادر مختلفة بأن ٣٧٪ إلى ٣٩٪ من سكان القدس اليوم من العرب٬ وبأن النمو السكاني العربي أكبر بقليل من النمو السكاني الإسرائيلي بحسب دراسة صادرة عن "معهد القدس لبحث السياسات" العام الماضي (٢،٢٪ للإسرائيليين مقابل ٢٬٧٪ للعرب في العام ٢٠١٤ مثلًا)٬ علمًا أن٤٠٪ من سكان القدس اليهود بحسب الدراسة ذاتها (أي حوالي ٢٠٠ ألف) من الراديكاليين الأرثوذكس٬ وأن السلطات الإسرائيلية تعطي تحفيزات لليهود الوافدين من الخارج للسكن في القدس لموازنة الخارجين منها٬ وعلمًا أن الحكومة الإسرائيلية تعمل على تنفيذ مشروع "القدس الكبرى" الذي يقضي بإلحاق عدد من مستوطنات الضفة الغربية ذات الكثافة السكانية ببلدية القدس.

يبدو الرئيس الأميركي باستعجاله تفكيك "الستاتيكو" القائم في مسار التسوية كمن يؤكد رغبته بنفض اليد من أزمات الشرق الأوسط٬ وتفضيله الاستثمار في هذه الأزمات عن بُعد بدلًا من إدارتها بتروٍ. هذا ما تعنيه إزالة المكابح الموروثة من عهد أوباما. وهذا ما يمكن استنتاجه من الاندفاع إلى توليد ديناميات جديدة في المنطقة٬ والتأسيس لاحتمالات انتظام دول في محاور إقليمية يختلف خطابها السياسي عما سبقه.

ولعل هذا ما يعنيه حديث سفير إسرائيل الصريح لدى الولايات المتحدة لمجلة "بوليتيكو" مؤخرًا عن "نافذة الفرص" التي تجمع إسرائيل بـ"بعض الدول العربية"٬ لجهة "التحديات المشتركة" في مواجهة إيران. أما ارتدادات هذه المسارات الناشئة، فيُنتظر أن نشهدها على مدار سنوات عهد ترامب المقبلة. وأما "نافذة الفرص" فستكون٬ بمعنى من المعاني٬ متاحة لجميع اللاعبين المعنيين بالصراع وخياراتهم.




مواضيع: القدس،نافذة،  


الأخبار الأخيرة