وكانت مجلة "تايم" الأمريكية اختارت لعددها فبراير/ شباط المقبل، الصادر يوم إلقاء ترامب خطابه في "دافوس" (الجمعة الماضي) عنوان "أمريكا وحدها"، لتسليط الضوء على عزلة الولايات المتحدة المتزايدة، منذ دخول ترامب البيت الأبيض، في 20 يناير/ كانون ثان 2017.
وأظهر غلاف المجلة، الولايات المتحدة "معزولة وبعيدة" على خريطة لدول العالم.
كان يمكن أن تكون نصيحة ترامب لزعماء العالم في دافوس صادقة، لولا تدخل أمريكا في شؤون معظم دول العالم.
شمالي سوريا، محاذية تمامًا للحدود مع تركيا، لكن واشنطن مكّنت مسلحي تنظيم "ب ي د / ب ك ك" الذين تحملّهم أنقرة مسؤولية التفجيرات الإرهابية التي ضربت مدنًا تركية، بما فيها وجهات سياحية مثل شارع الاستقلال في إسطنبول.
لكن، كيف يمكن لترامب أن يتوقع من زعماء العالم وضع بلادهم أولًا، بينما يقوم في الوقت نفسه بتمكين قوات تقوّض أمن ومصالح تلك الدول، وخاصة حلفاء الولايات المتحدة وأعضاء في حلف شمالي الأطلسي "الناتو".
هذا التناقض الملحوظ في خطاب ترامب أمام أثرياء وأقوياء العالم في "دافوس"، يسيطر أيضًا وبنفس الطريقة على معظم سياساته وتصريحاته.
فالرئيس ترامب إما أنه يتفوّه أكاذيباً، كأن يدّعي مثلًا أن معدّل البطالة الأمريكية وصل لأدنى مستوى وهذا ليس صحيحًا، أو أنه غير واعٍ لسياسات بلاده وهذا ما رأيناه عندما يقول لتركيا إن إدارته توقفت عن تسليح تنظيم "ب ي د/ ي ب ك" الإرهابي؛ ويتبين لاحقًا أن واشنطن تريد الحفاظ على انتشار قواتها إلى جانب تلك التنظيمات الإرهابية المسلحة.
في قمة دافوس، عرض ترامب نصف الحقائق عندما تحدث عن السياسة الخارجية لبلاده.
قال إن أمريكا هزمت "داعش"، متناسيا أن ذلك كان بفضل تعاون مجموعة من اللاعبين الإقليميين. فلولا قيام حكومات مثل تركيا بفتح قاعدة "إنجيرليك" العسكرية أمام المقاتلات الأمريكية لتوفير دعم جوي للمقاتلين الذين طردوا داعش من العراق وسوريا، لكانت هزيمة داعش مهمة صعبة جدًا.
الولايات المتحدة طلبت المساعدة لهزيمة "داعش"، لكنها رفضت التعاون مع حلفائها للقضاء على المنظمات الراديكالية الأخرى.
إن المعاملة بالمثل التي يطالب بها ترامب في قطاع التجارة فقط "لجعل التبادلات التجارية عادلة"، لا يبدو أنها قابلة للتطبيق على جوانب أخرى من السياسة الدولية، مثل الحرب على الإرهاب، حيث تتوقع واشنطن المساندة (من حلفائها)، ولكنها نادرًا ما تمد يدها للمساعدة إن لم يكن تنظيم راديكالي ما يمثل مصدر قلق لها.
وقال ترامب في دافوس "لنجعل العالم أكثر أمنًا من الأنظمة المارقة، والإرهاب، والقوى الرجعية (..) نطلب من أصدقائنا وحلفائنا الاستثمار في نظم دفاعاتهم الخاصة".
الكثير من الدول، بينها حلفاء الولايات المتحدة، استثمروا بكثافة في نظم دفاعاتهم، خشية من مواقف ترامب غير المتوقعة، وإمكانية عدم تقديمه المساعدة لهم إذا دعت الحاجة.
وتكمن المشكلة بهذا الشأن، أن ترامب لم يقرر بعد مدى حجم البصمة التي يريد أن تتركها بلاده حول العالم.
إن كانت الولايات المتحدة تبحث عن مصالحها فقط، فيتعين عليها ترك الدول الأخرى البحث عن مصالحها هي الأخرى.
وإذا نشرت واشنطن قواتها حول العالم، عليها بالتالي أن تتوقع الاستماع إلى حلفائها الذين قد يكون لديهم مصالح أخرى ليس بالضرورة أن تراها الولايات المتحدة أو تقدّر أهميتها.
ومن أجل تحقيق السياستين، فإن الإعلان عن كون "أمريكا أولا" بالتزامن مع الاحتفاظ بالبصمة الأمريكية الكبيرة حول العالم، يجعل الوضع متناقضاً وبحاجة إلى حل.
في "دافوس" لم يساعد خطاب ترامب في حل هذا التناقض، بل ساعد فقط على إبرازه بشكل أوضح.
وعلى صعيد السياسة الاقتصادية، قدمت إملاءات ترامب على العالم في دافوس رسالة مختلطة.
ففي الوقت الذي تباهى فيه ترامب بكون اقتصاد بلاده هو "الأكبر والأوسع حول العالم حتى الآن"، دعا العالم للاستثمار في الولايات المتحدة، وقام بتوبيخ بعض الحكومات على "ممارسة الغش في قواعد التجارة الدولية".
والآن، ماذا سيحدث إذا قامت الدول التي تغش في نظام التجارة العالمي بالاستثمار في الولايات المتحدة؟ هل ستعاقب واشنطن الممارسات التجارية غير العادلة لتلك الدول، في ظل وجود خطر بفقدان الولايات المتحدة لاستثمارت هذه الدول.
أم أن الولايات المتحدة ستنظر في اتجاه آخر، وتستخدم (حجة) التجارة العادلة كأداة لعقاب الدول التي لا تستثمر لديها.
في الواقع، اختلق ترامب معظم الحكايات التي قدمها في خطابه، صحيح أن أمريكا هي أكبر اقتصاد، ولكنها تحتفظ أيضا بأكبر ديون وطنية من حيث القيمة المطلقة، وواحدة من أكثر 5 دول في نسبة الدين مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي.
وحين قال ترامب إن الاقتصاد الأمريكي قد تراجع - وهو ما قد يكون غير دقيق بالنظر إلى أن النمو الاقتصادي الأمريكي تباطأ بنسبة نصف نقطة مئوية في الربع الأخير – أسقط ترامب العديد من الحقائق الأخرى التي من شأنها أن تثبت أن الصورة الاقتصادية لأمريكا، وللعالم، قد لا تكون وردية.
في الواقع، قد تكون سوق الأسهم والشركات الكبرى، تعمل بكفاءة عالية، لكن متوسط دخل الأسرة لمعظم الأمريكيين، حافظ بالكاد على معدل التضخم.
وعلى صعيد آخر، انسحب ترامب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادىء (تي بي بي) معتقدا أنه بإمكان بلاده التفاوض على اتفاقيات تجارية ثنائية أكثر ملاءمة مع الدول الأعضاء، انطلاقا من اقتصاد واشنطن الهائل الذى يمنحها نفوذا مطلقا فى المفاوضات التجارية.
لكن أحيانا، تحدث الأمور غير المتوقعة، فعوضا عن رضوخ الدول الأعضاء في "تي بي بي" والدخول في مفاوضات ثنائية مع الولايات المتحدة، حافظت تلك الدول على الاتفاقية سارية؛ ما أدى إلى إنشاء منطقة تجارة حرة ذات حجم اقتصادي كبير.
والآن، يمكن لليابان وأستراليا التفاوض مع الولايات المتحدة حول هذه المنطقة التجارية، ما أفقد واشنطن المزايا (التي كانت تتمتع بها حين كانت عضوا في الاتفاقية).
ترامب يمكنه أن يصر كما يريد على أن سياسة "أمريكا أولا" لا تعني "أمريكا وحدها"، لكن استطلاع رأي سريع سيظهر أنه منذ وصوله البيت الأبيض، قامت واشنطن بإبعاد مجموعة من حلفائها، من أوروبا إلى تركيا، ومن جنوب آسيا.
مواضيع: