"من بين أكثر من 400 نوع مختلف من الزهور في جبال القوقاز الجنوبية، تتفرد زهرة "خاري بلبل" بالكثير من الأساطير، التي تتناقلها الأجيال في منطقة كاراباخ بدولة أذربيجان حاليًا، منذ قديم الزمان حتى الآن، والتي ترمز كلها لمعاني الحب والوفاء والخيانة في وقت واحد، والغريب فيها أنها تتفرد عن باقي النباتات أنها تموت إذا خرجت من مناطق وجودها لذلك تفشل كل محاولات استزراعها في أماكن أخرى، كونها تنتشر وسط نظام بيئي فريد غير موجود بأية بقعة أخرى على الأرض.
وزهرة "خاري بلبل"، أو (Xarı Bülbül) تتواجد بكثرة في مدينة شوشا قلب منطقة كاراباخ، وتشبه البلبل أو العندليب، ومن هنا جاء اسمها المركب، وهو "خاري" بمعنى شوكة في اللغة الأذربيجانية، و"بلبل" وتعني العندليب أو البلبل، وإذا نظرت إلى الزهرة عن كثب، يمكنك بسهولة تمييز ثلاث بتلات منتشرة في ثلاثة اتجاهات مختلفة، اثنان منهم مثل الأجنحة، والثالث في المنتصف على شكل رأس طائر بمنقار، كما أنها زهرة هشة للغاية ليس لها رائحة، لكنها مهيبة الشكل ذات ارتفاع متواضع بين 60 : 70 سم وقدرة على التحمل لدرجة أنها تكون أول زهرة تتفتح بحلول الربيع وبعد انحسار الجليد، لذلك لا عجب كونها موضوع عديد من الأساطير والحكايات الشعبية.
أسطورة السلام والمحبة
أكثر تلك الأساطير شيوعًا، تحكي عن بلبل وقع في حب وردة عادية ضمن مئات الورود في شوشا، وقصة حبهما كانت نبيلة وعرفتها الطيور والزهور والأشجار وتحاكت بها مثل عالم البشر تمامًا، كان البلبل مجنون بحب الوردة وهي كذلك، وكان يغني لها ليلًا ونهارًا ويبوح بمشاعره، لكن سرعان ما انتشرت قصة حبهما العنيفة في الآفاق، فرح بها الكثير لكن "خاري" أو الشوكة لم تستطع تحملها، فبدأت تدبر المكائد لقتل قصة الحب تلك.
بعد فترة بدأت الشوكة تعلن حبها للوردة على أمل أن تدق إسفينًا بين العاشقان، لكن الوردة النبيلة أبت وفضلت أن تكون وفية لحبها مع البلبل وأن تظل تحبه بجنون. شعرت "خاري" بغضب شديد وبدأت تلتهم بتلات الوردة الثلاث واحدة تلو الأخرى، سمع العندليب صرخاتها اليائسة، وأدرك أن زهرته المحبوبة على وشك الموت، فأخذ يشدو أغنية حزينة شاركته فيها كل الزهور المجاورة.
وبينما كانت الوردة المسكينة تتلاشى، صلوا جميعًا من أجل خلاصها، مستعدين للتضحية بأنفسهم من أجل هذا الحب العظيم، ولم تذهب نداءاتهم دون إجابة، فانطلق البلبل ليدفن نفسه في قلب محبوبته لكي تندمج الوردة والشوكة والعندليب في زهرة واحدة، هي "خاري بلبل". لكي تضم ألوان الزهرة البيضاء والأصفر الذي يغطى رأس البلبل والوردي الفاتح الذي يغطي ريشه الكثيف، وذلك في تناغم كبير.
وأصبحت الأغنية الحزينة رمزًا للتضحية بالنفس من أجل المحبوب، ومع كل ربيع عندما تتفتح بتلات الزهرة الثلاث، اعتاد الناس هناك على عزفها وترديد مقطوعاتها، كدليل على السلام والمحبة والوفاء، ويبدو من شكل "خاري المدفون وجهه في قلب الوردة أنه يتوارى خجلًا من جريمته الشنعاء بالتفريق بين الأحبة لكي يخفي نفسه عن نور العالم للأبد، ومع الوقت تحولت الزهرة إلى رمز المنطقة كلها، ويمكن العثور على رسوماتها على السجاد الأذربيجاني منذ قديم الزمان، واليوم هناك فرق موسيقية تتخذ منها اسمًا، وحتى "المانات" العملة الرسمية في أذربيجان مطبوع على فئة الـ20 مانات زهرة "خاري بلبل"، ويعتقد الناس حتى اليوم أنه يمكنها بأنفاسها اللطيفة أن تأتي بالسلام والمحبة.
أسطورة ابنة الخان
ووفقًا للأساطير التاريخية، يسرد الناس هناك أسطورة أخرى للزهرة، تتمحور حول ابنة خان كاراباخ التي تزوجت من نجل الشاه الإيراني، وانتقلت للعيش معه في طهران، لكنها كانت حزينة لأنها تركت موطنها الأصلي الذي تربت وترعرعت فيه، ورغبة منه في التخفيف عنها حزنها، زرع الشاه الصغير في حديقة القصر كل زهور كاراباخ، لكن "خاري بلبل" رفضت أن تنمو خارج موطنها، وأصلت أغنية تحمل اسم الزهرة تلك الأسطورة وتعتبر من الفلكلور الشعبي المتوارث حتى الآن.
معجزة الطبيعة
يقول الباحث والصحفي فاسيف جولييف عن الزهرة: "بعد أيام من انطلاق الربيع، تغيّر الجبال المغطاة بالثلوج ملابسها البيضاء وتتدثر بالبطانيات الخضراء، ووسط كل ذلك تتألق تلك الزهرة التي تنمو بالغابات وسهول هذه المنطقة تسمى خاري بلبل وتسمى معجزة الطبيعة وزهرة الحب".
ويصف الكاتب الزهرة بأن جذورها مثل جذور نبات البطاطس، وعمر زهورها شهر واحد فقط، تنمو ساقها بطول يصل لـ 70 سم، وفوقه تتدلى سبع أزهار لا تلبث أن تكمل تفتحها، حتى تبدأ في الذبول تدريجيًا كل يوم زهرة مثل طريقة نموها من الأسفل للأعلى، مضيفًا أنها تنمو في تلك المناطق الباردة شتاءًا رغم أنها من فصيلة زهور الأوركيد الاستوائية التي تتخذ أشكال مماثلة لحشرات مثل النحل والعناكب والبعوض، وأخرى مثل "حذاء فينوس" إلهة الحب عند الإغريق المرتبطة بأسطورة أخرى تقول إن كوكب الزهرة كان يتجول في السماوات، فوجد الكون قد انبهر بجمال فينوس وأطلق اسمها على كوكب، لكي ترقص الأخيرة في السماء فرحًا ويسقط حذاءها على الأرض ويتحول إلى زهرة باسم "حذاء أو شبشب فينوس".
مهرجان "خاري بلبل"
مؤخرًا أصدر الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف مرسومًا باعتبار مدينة شوشا عاصمة الثقافة في أذربيجان، وبعد أيام من القرار في مطلع شهر مايو، أقيم بالمدينة مهرجان "خاري بلبل" الدولي الذي توقف قبل 32 عامًا، وكان ينظم سنويًا بنفس المكان بمشاركة عدة دول منذ عام 1989 حتى 1992، حيث كانت تقام منافسات في الفن والرسم والشعر والأدب، فضلًا عن سباقات الخيول، وكانت خيل كاراباخ المشهورة تتصدر الاهتمام، وحفلات موسيقية أقيمت على مضمار السباق، فيما كانت منافسات المصارعة. وكان المهرجان يحظى بمكانة دولية ويعتبر أحد أهم الأحداث الثقافية، ليس فقط في أذربيجان ولكن أيضًا في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية.
أما في 2021، فقد كان أقيم المهرجان بطعم مختلف ابتهاجًا بقدوم الربيع، فتم إشعال شعلة عيد النوروز وهي العادة المنتشرة في كل دول آسيا الوسطى ضمن طقوس استقبال الربيع، وأقيمت عروضا قدمتها مجموعات موسيقية من جنسيات مختلفة تعيش في أذربيجان، عزفت موسيقى شعبية وكلاسيكية، وكان من بين المدعوين للحدث عدد من الشخصيات العامة والثقافية، ومشاهير كاراباخ، بما في ذلك شوشا، فضلًا عن عروض لفرق الفولكلور للشعوب التي تعيش في أذربيجان، كما عرضت مقاطع فيديو لمطربين خلدتهم الذاكرة الفنية في أذربيجان مثل بلبل وسيد شوشينسكي وخان شوشينسكي ورشيد بهبودوف وشوفكات أكبروفا، والذين أحيوا حفلات بنفس المهرجان في شوشا من قبل.
قبل 270 عامًا أنشأ شوشا أمير كاراباخ "بناه علي خان"، والآن تعتبر زهرة "خاري بلبل" ومهرجانها تذكرة عودة للمدينة إلى أمجادها القديمة، فضلًا عن كونها تتمتع بطبيعة خلابة ولها أجواء ساحرة ليس لها نظير بالعالم تجعل الضيف لا يرغب في مغادرتها، وتجبر أهلها أن تموت روحهم إذا تركوها لمكان آخر، تمامًا مثل السمكة التي تموت لو خرجت من الماء."
مواضيع: