باكو

  25 يوليو 2017    قرأ 1784
باكو
باكو (بالأذربيجانيَّة: Bakı؛ IPA: [bɑˈcɯ]) هي عاصمة أذربيجان وأكبر مدنها، بل أكبر المدن الواقعة على ساحل بحر قزوين وفي كامل إقليم القوقاز. تقع المدينة على الشاطئ الجنوبي لشبه جزيرة آبشوران، وهي تتألَّف من قسمين رئيسيين: وسط البلد والمدينة القديمة المسوَّرة البالغة مساحتها 21.5 هكتارات. قُدِّرت جمهرة المنطقة الحضريَّة لباكو بما يزيد عن مليونيّ نسمة في سنة 2009م،[6] وتشير الإحصاءات الرسميَّة إلى أنَّ 25% من كامل الأذربيجانيين يقطنون هذه المنطقة الحضريَّة دون غيرها من المناطق في البلد.
تُقسم باكو إلى أحد عشرة منطقة إداريَّة (رايون) و48 ناحية. تضم هذه النواحي تلك التي أُنشأت على الجزر الواقعة في خليج باكو، وبلدة صخور النفط (بالأذربيجانيَّة: Neft Daşları) المُشيَّدة على ركائز اصطناعيَّة في بحر قزوين على بعد 60 كيلومتر (37 ميلًا) عن البرّ الرئيسي لِباكو. ضُمَّت المدينة القديمة بالإضافة إلى قصر الشروان شاه، أو الشروانشاهان، وقلعة العذراء، إلى قائمة مواقع التراث العالمي سنة 2000م. يُصنّف دليل الكوكب الوحيد (لونلي پلانت) باكو من ضمن أفضل عشرة مواقع في العالم يقصدها السوَّاح للتمتع بالحياة الليليَّة الصاخبة.


[7]
تُعتبر المدينة المركز العلمي والثقافي والصناعي لأذربيجان، وقد اتخذت الكثير من الشركات والمصانع والمؤسسات منها مركزًا لها، مثل شركة SOCAR، وهي من ضمن أقوى مائة شركة في العالم.[8] وقد احتلَّت باكو هذه المكانة منذ القِدم وازدادت أهميَّتها كمركز اقتصادي إقليمي بعد أن تمَّ استخراج النفط فيها لأوَّل مرة في سنة 1847م، بالطرق الصناعية، وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أصبحت أذربيجان من أكثر الدول إنتاجًا للنفط في العالم، حيث كان 50% من الإنتاج النفطي العالمي يُستخرج في باكو.[9] من أبرز المرافق الاقتصاديَّة في المدينة: مرفأ باكو الدولي للتجارة البحريَّة، الذي يستقبل حوالي مليونيّ طن من البضائع سنويًا.[10] استضافت باكو مسابقة يوروڤيجن للأغاني السابعة والخمسين سنة 2012م، كما يتوقَّع أن تستضيف دورة الألعاب الأوروبيَّة لسنة 2015.
باكو مدينةٌ متمازجة الثقافة، فهي من ناحية مدينة ذات طابع أوروبي غربي، ومن ناحية أخرى مدينة ذات طابع إسلامي شرقي، وأبرز ما يدل على ذلك هو طرز العمارة المتنوِّعة، فالمباني العائدة للعهد الروسي يطغى عليها الطراز الأوروبي، وتلك السابقة لهذا العهد يغلب عليها الطابع الإسلامي، فحارات المدينة القديمة المسوَّرة ضيِّقة تشبه حارات كثيرة ضيقة في مدن عربية وإسلامية شرقية، وقصورها مُزيَّنة ومزخرفة بالنقوش والآيات القرآنيَّة التي رسمت بالخط العربي.[11] عانى أهل المدينة، كما باقي سكَّان أذربيجان، من طمس الهويَّة الإسلاميَّة خلال العهد السوڤييتي، ويُشير البعض إلى أنَّ قسمٌ من شباب المدينة بالذات يشهد صحوةً إسلاميَّة في الزمن الحالي بعد زوال الهيمنة الروسيَّة واستقلال أذربيجان.[11] باكو مدينةٌ آخذة بالتطور والعمران منذ تولّي الرئيس إلهام علييڤ منصبه سنة 2003م، والبناء فيها عمودي غالبًا، ومسؤولي بلديَّة المدينة حريصون على إظهارها بمظهرٍ لائق جميل يُحاكي مظر مدن أوروبا الغربيَّة، وقد نجحوا في ذلك إلى حدٍ بعيد، حيث أصبحت معايير نظافة الشوارع وتنظيمها قريبة من المعايير المُطبَّقة في أوروبا.
أصل التسمية[عدل]
يُعتقد أنَّ الاسم "باكو" مُشتق من كلمة فارسيَّة قديمة هي "باد-کوبه"، وتعني "ريح منضربة" وبالتالي يُقصد بها "المدينة التي تضربها الرياح"، حيث أنَّ باد تعني ريح وکوبه مُشتقة من الفعل "کوبیدن" بمعنى "يضرب"،[12] وبهذا فإنَّ الاسم يُشير إلى موقع الرياح العاتية على ساحل بحر قزوين. ويبدو أنَّ هذا أصل التسمية هذا هو الأرجح، إذ أنَّ باكو تشتهر بعواصفها الثلجيَّة العنيفة ورياحها العاتية.[13] يُعتقد أيضًا أنَّ اسم المدينة مشتقٌ من "باغ كوه" أو "بغكوه"، بمعنى "جبل الله"، حيث أنَّ باغ وكوه بالفارسيَّة القديمة تعنيان "إله" أو "رب" و"جبل" على التوالي. يُلاحظ كذلك بعض الشبه بين تسمية "بغكوه" و"بغداد" (هبة الله) حيث أنَّ كلمة داد هي الكلمة الفارسيَّة القديمة التي تعني "يهب" أو "يُعطي". ذُكِرت باكو في المصادر العربيَّة بأسماء عديدة، منها: باكو، وباكوخ، وباكويا، وباكوية، وبادكوبا، ويظهر أنَّ كل هذه الأسماء مشتقَّة من الفارسيَّة. قيل: «باكو مدينة في روسيا مما أخذته من مملكة إيران أكثر أهلها شيعة وبها النفط».[14] وجاء في كتاب معجم البلدان للمؤرخ ياقوت الحموي: «باكويه: بضمّ الكاف وسكون الواو وياءٍ مفتوحة. بلدٌ من نواحي الدربند من نواحي الشروان فيه عين نفط عظيمة تبلغ قبالتها في كل يوم ألف درهم، وإلى جانبها عين أخرى تسيل بنفط أبيض كدهن الزيبق لا تنقطع ليلاً ولا نهاراً تبلغ قبالتها مثل الأولى، وحدثني من أثق به من التجار أنه رأى هناك أرضاً لا تزال تضطّرم ناراً، وأحسب أن ناراً سقطت فيه من بعض الناس فهي لا تنطفئ لأن مادتها معدنية».[15]
عَرَضَ العديد من اللغويين أصولًا محتملة لاسم مدينة باكو تختلف عن تلك سالفة الذِكر، فقال ل. جـ. لوپاتنسكي[16] وعلي حسين زاده[17] أنَّ باكو كلمة مُشتقَّة من التركيَّة القديمة وتعني "تلَّة". يؤكد كيروپيه پاتكانوڤ، الأستاذ المختص بالتاريخ القوقازي، أنَّ هذا الاسم يعني تلَّة، لكنه يرجع أصله إلى اللغة اللَّكيَّة.[17] تنص الموسوعة الإسلاميَّة التركيَّة أنَّ كلمة باكو مُشتقة من الكلمتين باي-كيوي، بمعنى "المدينة الرئيسيِّة". من النظريات الأخرى نظريَّة تقول أنَّ الاسم مُشتق من الاسم الألباني القوقازي القديم للمدينة، وهو "باگوان".
التاريخ[عدل]
ما قبل التاريخ
أظهرت الدراسات أنَّ منطقة آبشوران بما فيها مدينة باكو المعاصرة كانت عِبارة عن سڤناء مأهولة بالحياة البريَّة الحيوانيَّة والنباتيَّة منذ حوالي 100,000 سنة، وأنَّ أقدم استيطان بشري للمنطقة يرجع إلى العصر الحجري. كما عُثر على رسومات ومنحوتاتٍ صخريَّة بالقرب من منطقة بايلي، ومنحوتة برونزيَّة على شكل سمكة صغيرة داخل المدينة القديمة، وتبيَّن بعد فحصها أنها تعود للعصر البرونزي. أدَّت هذه الاكتشافات إلى ولادة نظريَّة تقول بأنَّ البشر استوطنوا المدينة الحاليَّة منذ العصر سالف الذِكر.[18] بالإضافة إلى ذلك، عُثر في ناحية نارداران على مرصدٍ فلكيّ قديم رُسمت على جدرانه الصخريَّة صورًا للشمس وعدد من الكواكب والنجوم.[19] أظهرت حفريَّات أخرى بداخل المدينة وحولها وجود مستعمراتٍ بشريَّة عديدة ومعابد وثنيَّة وتماثيل وتحف متنوِّعة تعود للبشر الأوائل الذين قدموا المنطقة.
لعصور القديمة
خلال القرن الأوَّل الميلادي جرَّد الرومان حملتان عسكريَّتان لفتح القوقاز، فبلغت جيوشهم باكو، وتمكنت من ضم كافَّة المنطقة إلى الإمبراطوريَّة الرومانيَّة، وكانت تلك أوَّل مرَّة تُذكر فيها المدينة في أي سجل مكتوب.[20] وقد عُثر في قبوستان، على مقربة من باكو، على نقوشٍ رومانيَّة تعود للفترة الممتدة بين عاميّ 84 و96م،[21] ومن أبرز معالم هذه الفترة الباقية: قرية "رامانة" الواقعة في ناحية صابونچو في باكو.[22] عُرِفت باكو خلال وقتٍ لاحق باسم "ألبانة"، ويقول بعض المؤرخين أنَّ باكو عُرفت باسم "ألبانوپولس" خلال العهد الروماني عندما أنشأت محافظة ألبانيا القوقازيَّة.[23] تنص الأعراف والتقاليد المسيحيَّة المحليَّة أنَّ القدّيس والرسول برثولماوس استشهد أسفل برج العذراء داخل المدينة القديمة خلال هذه الفترة، وتؤكد الوثائق التاريخيَّة أنَّ كنيسة شُيِّدت حينها على أنقاض معبد "أرطا" الوثني.
خلال القرن الخامس الميلادي، ذَكر المؤرِّخ الإغريقي پيرسيكوس الپانيوني الشعلات الباكويَّة الشهيرة لأوَّل مرَّة، فقال: «من الصخور المُجاورة للبحر ينبعثُ اللهب». وبفضل هذه النيران المشتعلة، استحالت باكو مركزًا دينيًا مهمًا في المجوسيَّة (الزرادشتيَّة)، لدرجة أنَّ الشاه الفارسي الساساني أردشير الأوَّل أعطى أوامره بإبقاء شعلة نار مضاءة للإله أهورامزدا في جميع معابد المدينة على الدوام،[24] وذلك بعد انتقال الهيمنة على القوقاز من الرومان إلى الفرس، بعد انقسام الإمبراطوريَّة الرومانيَّة إلى قسمين: غربي وشرقي.
لعصور الوسطى
تمكن المسلمون من فتح باكو وكامل أذربيجان بعد أن هزموا الفرس في عدَّة وقعات، وكان الفتح الإسلامي لباكو في عهد الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطَّاب الذي أرسل حُذيفة بن اليمان إلى تلك الأصقاع لإتمام فتحها. يقول ياقوت الحموي في كتاب مُعجم البُلدان: «وحَــدُّ أَذربيجــان من بَرْذَعَة مشرقًا إلى أرزنجان مغربًا، ويتصل حدُّها من جهة الشمال ببلاد الديلم والجيــل والطَّرْم، وهو إقليم واسع. ومن مشهور مدائنها: تبريز، وهي اليوم قصبتها وأكبر مُدُنِها، وكانت قصبتها قديماً المَراغة، ومن مدنها خُوَيّ، وسَلمَاس، وأُرمية، وأرْدَبيل، ومَرَند، وغير ذلك. وهو صُقع جليل، ومملكة عظيمة، الغالب عليها الجبال. وقد فُتحت أولاً في أيام عمر بن الخطّاب، وكان عمر قد أنفذ المغيرة بن شُعـبـة الثَّقفي واليًا على الكوفة، ومعه كتابٌ إلى حُذيفة بن اليمان، بولاية أَذربيجان، فورد الكتاب على حذيفة وهو بنهاوند، فسار منها إلى أَذربيجان في جيش كثيف، حتى أتى أردبـيـل، وهي يومـئــذ مدينة أذربيجان. فقاتلوا المسلمين قتالاً شديداً أيامًا. ثم إن المرزبان صالَحَ حذيفة على جميع أذربيجان، على ثمانمائة ألف درهم وزن».[25] اعتنقت الأغلبيَّة الساحقة من سكَّان باكو الإسلام بعد تمام الفتح، وسكنتها قبائل عربيَّة مختلفة، غير أنَّ أهلها الأصليين لم يتعرَّبوا وبقوا على قوميتهم، وبعد فترة من الزمن اقتبس العرب الذين جاءوا المدينة فاتحين القوميَّة الفارسيَّة، وأبرزهم أجداد سلالة الشروانشاهانيين الحاكمة.[26][27]
إنَّ المصادر حول تاريخ باكو القروسطي السابق للقرن العاشر الميلادي قليلةٌ للغاية، حتى أنها تكاد تكون معدومة. وأقدم أثرٍ أتى على ذِكر المدينة في تلك الفترة هي قطعة نقود معدنيَّة عبَّاسيَّة تعود للقرن الثامن. خلال تلك الفترة كانت باكو تُشكل جزءًا لا يتجزّأ من إقليم شروان التابع للدولة العبَّاسيَّة، وبعد وفاة الخليفة أبو الفضل جعفر المتوكل على الله قامت دولة الشروانشاهانيين المستقلَّة ذاتيًا في المنطقة، وسيطرت على المدينة. تعرَّضت باكو طيلة تلك الفترة لغزوات قبائل الخزر التركيَّة، وبدايةً من القرن العاشر أخذت تتعرض لغزوات الروس الكيڤيين بين الحين والآخر. وفي عام 1170م، شاد الشروان شاه أخستان الأوَّل ترسانةً بحريَّة في باكو بنى بواسطتها أسطولًا ضخمًا صدَّ بواسطته هجومًا روسيًا عظيمًا.
أصبحت باكو عاصمة الشروانشاهانيين في سنة 1191م بعد أن دمَّر زلزالٌ كبير مدينة شماخي، العاصمة القديمة للدولة، وأنشأت فيها المصالح الرئيسيَّة، مثل دار السك.[28]
أُنشأت الكثير من الحصون داخل المدينة وحولها طيلة الفترة الممتدة من القرن الثاني عشر حتى القرن الرابع عشر، نظرًا لكون هذه الفترة من أكثر عصور العالم الإسلامي اضطرابًا، فقد نشبت خلالها الحروب الصليبيَّة ووقع الغزو المغولي للبلاد الإسلاميَّة بما فيها القوقاز. فقد شُيّد برج العذراء، وقلعة رامانة، وقلعة نارداران، كما أعيد تشييد ماهو مهدَّم أو متساقط من أسوار المدينة، وتدعيم ما بقي صامدًا. على الرغم من ذلك، تمكن القائد المغولي هولاكو خان من احتلال باكو خلال الحملة المغوليَّة الثالثة على أذربيجان (1231–1239م)، وبعد أن استتب الأمر للمغول في بلاد فارس، جعلوا من باكو المقر الشتوي للإلخانية. ازدهرت المدينة خلال القرن الرابع عشر تحت حكم الإلخان محمد خدابنده أولجايتو الذي أزاح عبء الضرائب وخففه عن كاهل المواطنين، فظهر شاعرٌ من باكو هو ناصر الباكوي أنشد الإلخان قصيدة مادحًا إيَّاه، وكانت تلك إحدى أوَّل القصائد التي كُتبت باللغة الأذربيجانيَّة. عانت باكو خلال القرن الرابع عشر من ارتفاع مستوى بحر قزوين، مما أدّى إلى غرق قلعة سبايل الشهيرة، وظهرت في المدينة عدَّة أساطير تتحدث عن المدن الغارقة، مثل قصة "شهر يونان" أي مدينة اليونانيين. زار الرحَّآلة البندقي ماركو پولو المدينة خلال رحلته إلى الشرق الأقصى، وذَكَرَ تعامل أهلها بالتجارة مع باقي بلاد الشرق الأدنى ومع تجَّار البندقيَّة وجنوة والقبيلة الذهبيَّة ودوقيَّة موسكو.
لعصور الحديثة
عام 1501م ضرب الشاه إسماعيل بن حيدر الصفوي الحصار على باكو أثناء حملته على ولاية شروان بهدف ضمّها إلى ممتلكاته والانتقام من حاكم شروان الذي قتل والده الشاه حيدر.[30] وخلال هذا الوقت كانت باكو مسوَّرة بالكامل من ناحية البر، واشتهرت أسوارها بسماكتها وبصعوبة اختراقها، أمَّا من ناحية البحر فكان السور قد تداعى وتساقط بفعل ارتطام الأمواج على مدى عقود. كذلك كان أهل المدينة قد حفروا خندقًا عريضًا يحول بينهم وبين الغزاة. أمام هذا الواقع أمر الشاه إسماعيل جنوده بثقب الجدران بالإزميل وبالحفر أسفلها حتى تتضعضع أساساتها، فتمكنوا خلال فترة من اقتحام المدينة والسيطرة عليها.[31] وأمر الشاه بذبح عدد عظيم من سكَّان المدينة، وأجبر الباقين على اعتناق المذهب الشيعي الإثنا عشري.
وفي عام 1538م، تمكن الشاه طهماسب الأوَّل بن إسماعيل من إنهاء حكم الشروانشاهانيين، لتخضع المدينة للصفويين بالكامل بحلول عام 1540م. خلال الفترة الممتدة بين عاميّ 1568 و1574م قَدِمت ستَّة بعثات إنگليزيَّة إلى باكو، وقد وصف إنگليزيَّان هما طوماس بانيستر وجيفري داكيت المدينة، فتحدثا عن آبار النفط وكيف كان السكَّان يستخدمونه لإنارة منازلهم.[32][33] عام 1604م تمكن الشاه عبَّاس الأوَّل من تدمير حصن باكو ودكّه كليًا.
العهد الروسي
بتاريخ 26 يونيو سنة 1723م استسلمت باكو وفتحت أبوابها للجيوش الروسيَّة بعد حصارٍ طويل وقصفٍ مدفعيّ عنيف. أصدر القيصر الروسي بطرس الأكبر مرسومًا أمر فيه ببقاء فوجين عسكريين بكامل رجالهما (2,382 جندي) وأسلحتهما في المدينة تحت قيادة الأمير "برياتيانسكي" للحيلولة دون عودة المسلمين إليها، سواء كانوا إيرانيين أم عثمانيين. عام 1795م، استُخلصت المدينة من أيدي الروس بواسطة الآغا محمد خان قاجار، الذي هدف إلى الحد من طموح روسيا القيصريَّة بالتوسع في جنوب القوقاز، غير أنَّ هدفه لم يُكتب له أن يتحقق، ففي ربيع سنة 1796م، أمرت القيصرة كاثرين الثانية الكبيرة القائد زوبوڤ بالتحرّك على رأس جيشٍ عظيم إلى القوقاز لضمّه إلى الممالك الروسيَّة. استسلمت باكو أمام الموجة العسكريَّة الأولى التي بلغ تعداد أفرادها 6,000 نفر، وفي 13 يوليو من نفس العام وصل أسطول صغير إلى خليج المدينة ونزلت منه حامية عسكريَّة سرعان ما تمركزت وهيمنت على مختلف أنحاء باكو. عُيِّنَ الفريق أوَّل پاول سيسيانوڤ حاكمًا على المدينة من قبل الحكومة الروسيَّة، لكن سرعان ما أمره القيصر بولس الأوَّل بالعدول عن الحملة ومغادرة المدينة فورًا، فنفَّذ ما أُمر به، وفي مارس 1797م غادر آخر الجنود الروس المدينة. بعد اغتيال القيصر بولس الأوَّل، تولّى عرش القيصريَّة ولده إسكندر الذي عاود الاهتمام بفكرة احتلال باكو. حاول الروس السيطرة على المدينة هذه المرَّة بأسلوب دبلوماسي غير مُباشر، فتوصَّل الفريق أوَّل سيسيانوڤ إلى تسوية مع خاقان باكو بشأن وضع المدينة سنة 1803م، واتُفق على تسليمها سلمًا إلى الروس، لكن التسوية سُرعان ما أُلغيت بعد أن قام الخاقان حسين أوغلو الباكوي بطعن سيسيانوڤ حتى الموت عندما اقترب منه ليسلّمه مفاتيح المدينة بتاريخ 8 فبراير 1806م، فتأخَّر سقوط باكو بيد روسيا حوالي سنة. عاود الروس الكرَّة على المدينة في شهر أكتوبر من نفس العام فتمكنوا من دخولها، وفي سنة 1813م وقَّع الروس والفرس معاهدة گلستان التي تنازلت بمقتضاها الدولة القاجاريَّة عن باكو وأغلب القوقاز لصالح الإمبراطوريَّة الروسيَّة.
الطفرة النفطيَّة
كتب البروفيسور أ. ڤ. ويليامز جاكسون الأستاذ في جامعة كولومبيا، في مؤلَّفه من عام 1911م حامل عنوان "من القسطنطينيَّة إلى بلاد عمر الخيَّام" (بالإنگليزيَّة: From Constantinople to the Home of Omar Khayyam) فقراتٍ تحدث بها عن المدينة ونفطها، فقال: «باكو مدينةٌ قائمة على النفط، فشعلات لهبها غير المنطفئة تدين ببقائها وانحفاظها وازدهارها لذلك الزيت... تُنتج باكو حاليًا خُمس النفط المُستخدم في العالم، ويُعد إنتاجها الأعلى بين إنتاج جميع المدن والمُقاطعات حيث ينبع النفط. لا ريب في أنَّ هذا ما نصَّت عليه المخطوطات القديمة: "فجَّرت لي الصخور ينابيع من زيت". النفط موجود في كل مكان: في الهواء الذي يستنشقه المرء، وفي منخريه، وفي عينيه، وفي مياه استحمامه (على أنَّها لا تظهر في مياه الشُرب، فهذه يُحضرها السكَّان من ينابيع معدنيَّة بعيدة)، بل حتّى في الملابس الكتَّانيَّة. هذا هو الانطباع الذي يبقى في ذهنك عن باكو، وهو يصح أيضًا عند الحديث عن ضواحيها».[34]
أوَّل الآبار النفطيَّة التي حُفرت آليًا في أذربيجان كان بئرًا في ضاحية بي بي هيبة، وكان ذلك في سنة 1846م، على أنَّ كثيرًا من الآبار الأخرى التي حُفرت يدويًا سبقته بسنوات. شرع المهندسون بالتنقيب عن آبار النفط على نطاقٍ واسع منذ عام 1872م، عندما أقامت السلطات الروسيَّة المعنيَّة مزادًا علنيًا لبيع الأراضي الغنيَّة بالنفط حول باكو إلى الشركات الاستثماريَّة الخاصَّة. وخلال فترة قصيرة من الزمن شرعت الشركات السويسريَّة والأمريكيَّة والبريطانيَّة والفرنسيَّة والبلجيكيَّة والسويديَّة بالظهور في المدينة، وقد تجمَّعت أغلب هذه الشركات في قصر عُرف باسم "قصر النفط" (باللاتينية: Villa Petrolea) أو "دارة النفط".[35] من بين أبرز الشركات التي ظهرت على الملأ في المدينة: شركات تابعة للأخوين نوبل، وأسرتيّ شو، وروثتشايلد. بعد ازدياد عدد الآبار المُكتشفة، أُنشِأ حزامًا صناعيًا بالقرب من باكو عُرف باسم "المدينة السوداء" تضمن الكثير من المصانع والشركات العاملة باستخراج وتصنيع النفط. مع بداية القرن العشرين، كان نصف نفط العالم تقريبًا يُستخرج من آبار باكو،[36] وأصبحت المدينة أغزر مدن الإمبراطوريَّة الروسيَّة إنتاجًا للنفط، وبعد حوالي عشر سنوات حلَّت في المقام الأوَّل عالميًا، متفوقةً بذلك على الولايات المتحدة نفسها
القرن العشرين والفترة المُعاصرة
بعد قيام الثورة البلشفيَّة في شهر أكتوبر من عام 1917م، وفي خضام الفوضى الناجمة عن الحرب العالميَّة الأولى وتفتت الإمبراطوريَّة الروسيَّة، خضعت باكو لسيطرة المفوَّضيَّة الباكويَّة بقيادة البلشفي المُخضرم أرمنيّ الأصل أسطفان شاهوميان. سعى البلاشفة إلى الاستفادة من الصراعات العرقيَّة الدائرة في البلاد، فأحدثوا معاركًا قتاليَّة وأعمالًا حربيَّة داخل المدينة وفي باقي أنحاء أذربيجان وتغاضوا عنها. تواجه البلاشفة والطاشناق مع مجموعات إسلاميَّة مسلَّحة خلال محاولتهم الهيمنة على شوارع باكو وفرض الشيوعيَّة على البلاد،[38][39][40] فوقعت عدَّة أعمال عنف طيلة شهر مارس وحتى أوئل شهر أبريل تكبَّد خلالها الإسلاميّون خسائر فادحة وقُتل منهم الكثيرين فيما اصطُلح على تسميته "بأيَّام مارس" أو "أحداث مارس" أو "مجازر مارس" (بالأذربيجانيَّة: Mart soyqırımı أو Mart Hadisələri)، وقد أصيب الإسلاميّون بكارثة كبرى خلال هذه الأحداث، فقد لاحق الطاشناق العديد ممن لم يُقتلوا وقبضوا عليهم وذبحوهم، كما أُحرق العديد من المساجد، وبلغ عدد القتلى من الإسلاميين والمدنيين الذين لم يتدخلوا في القتال حوالي 12,000 شخص.[41][42][43] يوم 28 مايو سنة 1918م أعلنت العصبة الأذربيجانيَّة من مدينة گنجة بالجمهوريَّة القوقازيَّة الديمقراطيَّة الاتحاديَّة استقلالها تحت اسم "جمهوريَّة أذربيجان الديمقراطيَّة". بعد ذلك بفترة قصيرة، شرعت القوى المسلَّحة الأذربيجانيَّة تتحرَّك باتجاه باكو للسيطرة عليها، مدعومةً من جيش الإسلام العثماني بقيادة المير لواء نوري باشا، وسرعان ما تمكنت هذه القوى العسكريَّة من فرض هيمنتها على المدينة والإطاحة بكل القوى الأخرى المهيمنة عليها من بلشفيَّة وثوريَّة اشتراكيَّة وطاشناقيَّة ومنشڤيكيَّة، وحتى بريطانيَّة، بقيادة الفريق أوَّل ليونيل دانسترڤيل يوم 15 سبتمبر 1918 م. انتقم الأذربيجانيّون من الأرمن الذين ارتكبوا المجازر خلال أحداث مارس، فقتلوا الآلاف منهم وطردوا عددًا آخرًا من المدينة.[44] بعد انتهاء تلك الأحداث، استحالت باكو عاصمة جمهوريَّة أذربيجان الديمقراطيَّة، واستمرَّت كذلك حتى 28 أبريل 1920م، عندما اجتاح الجيش الأحمر الحادي عشر المدينة وأعاد تنصيب البلاشفة حكّامًا، فأصبحت باكو عاصمة جمهوريَّة أذربيجان السوڤيتيَّة الاشتراكيَّة
مع تولّي النازيّون مقاليد الحكم في ألمانيا وبداية الحرب العالميَّة الثانية، استقطبت باكو انتباه القائد الألماني أدولف هتلر لغناها بالنفط ولموقها الاستراتيجي. ويظهر أنَّ القوى الغربيَّة قلقت كثيرًا من احتماليَّة هيمنة النازيّون على باكو، إذ أبرق السفير الأمريكي في باريس إلى الحكومة الأمريكيَّة في واشنطن عارضًا إمكانيَّة قصف وتدمير باكو تدميرًا كليًا، والتشاور مع الحكومة الفرنسيَّة في هذا الأمر. غير أنَّ القائد الفرنسي الكبير شارل ديغول وقف بوجه هذه الخطة بعناد وانتقدها بشدَّة قائلًا أنَّ هكذا خطَّة "صادرة عن مجانين يرغبون بتدمير باكو بدلًا من مقاومة برلين". وفي 22 فبراير سنة 1940م، رفع الفريق أوَّل موريس گاملان تقريرًا إلى رئيس الوزراء الفرنسي إدوار دلادييه يقول فيه أنَّ تدمير هذا الموقع الغني بالمواد الأوليَّة من شأنه أن يحرم روسيا منها كما ألمانيا، وأنَّه يخشى من وقوع الروس في أزمة كبرى إن فقدوا تلك الموارد المهمَّة لصناعتهم العسكريَّة. عوض ذلك، لجأ الحلفاء إلى أسلوب آخر لحماية باكو دون تدميرها، فأنشأوا عشرة مناطق دفاعيَّة تطوّق المدينة طيلة مدَّة الحرب الألمانيَّة السوڤيتيَّة، للحيلولة دون أي غزو ألماني.[45] بلغ من شدَّة هَوَس هتلر بالمدينة أن صُنعت له كعكة مزينة بخريطة لبحر قزوين كُتبت عليها أحرف B-A-K-U بالشوكولاتة، وبعد أن تناولها قال: "سنخسر الحرب إن لم نحصل على نفط باكو".[46]
بعد نهاية الحرب، شرعت باكو بنفض الغبار عن نفسها وإعادة إحياء مرافقها الحيويَّة، فأُنشأت فيها أوَّل مضخَّة قائمة على ركائز اصطناعيَّة لاستخراج النفط من قاع البحر في العالم، في سنة 1947م. وفي سنة 1960م أُنشأت فيها أوَّل شركة بناء في كامل القوقاز، وفي 25 ديسمبر 1975م أُنشأ فيها أوَّل مصنع لإنتاج المُكيفات الهوائيَّة في الاتحاد السوڤييتي. خلال الفترة الممتدة من عام 1964م حتى عام 1968م ارتفعت نسبة إنتاج النفط حتى بلغت 21 مليون طن في السنة.[47] خلال عقد السبعينيَّات أصبحت أذربيجان إحدى أبرز الدول المنتجة للعنب والمُصنِّعة للخمر، فكان من نتيجة ذلك أن بُني مصنع للشمپانيا في باكو. عام 1981م تمَّ استخراج كميَّة قياسيَّة من الغاز في باكو بلغت 15 مليار م³. أصبحت باكو عاصمة جمهوريَّة أذربيجان بعد انهيار الاتحاد السوڤييتي سنة 1991م، وقد قام المجلس البلدي الأوَّل فيها بتغيير أسماء الكثير من النواحي من أسماء روسيَّة إلى أذربيجانيَّة ذات أصول محليَّة أو فارسيَّة أو عربيَّة.[48] مع بداية القرن الحادي والعشرين، أخذت بلديَّة باكو تعيد إنشاء هويَّة المدينة الأصليَّة التي كادت الشيوعيَّة أن تقضي عليها، فتمَّ هدم آلاف المباني العائدة للعهد السوڤييتي وإنشاء حزام أخضر من المنتزهات والحدائق داخل المدينة وعلى أطرافها، وتمَّ تطوير المرافق الخدماتيَّة الضروريَّة من صرف صحي وتنظيفات وتخطيط مُدني حتى أصبحت المدينة تُضاهي مدن أوروبا الغربيَّة من هذه الناحية، كما تنامت ظاهرة زيادة عدد المساجد الجديدة التي شُيِّدت بالتعاون مع تركيَّا في الكثير من الأحيان، في محاولة لإحياء التراث الإسلامي للمدينة.[49]

مواضيع:


الأخبار الأخيرة